الجمعة، 27 نوفمبر 2009

المثاقفة العربية الفارسية

إن المثاقفة العربية الفارسية ليست مسألة جديدة، بل إنها قديمة وجذورها ضاربة في أعماق التاريخ، والدليل على ذلك الكلمات الفارسية التي تسربت إلى اللغة العربية والتي ورد بعضها في القرآن الكريم؛ بيد أن المثاقفة العربية الفارسية برزت بشكل واضح في مرحلة ما بعد الإسلام، وتجلت في مسائل كثيرة منها الثقافية واللغوية والاجتماعية والدينية وغيرها؛ ففي المجال اللغوي يكفي أن نعرف أن الأبجدية العربية دخلت إلى اللغة الفارسية محدثة مرحلة جديدة ومنعطفاً تاريخياً في اللغة الفارسية وآدابها حتى وصل الأمر إلى تقسيم اللغة الفارسية إلى مراحل ثلاثة هي: الفارسية القديمة ( 1000 - 331 ق.م) والفارسية البهلوية (331 ق.م- 254هـ) والفارسية الحديثة التي يؤرخ لها بسنة 254هـ وحتى الآن.

استبدلت الفارسية الحديثة أبجديتها القديمة وأصبحت تستعمل الحروف العربية، ومن هنا أحدثت العربية ثورة في اللغة الفارسية عزّ مثيلها في اللغات الأخرى، ولذلك يمكننا القول بكل اطمئنان إن المثاقفة العربية الفارسية لا مثيل لها في اللغات الأخرى، فقد وصل هذا التثاقف إلى درجة أن الكلمات العربية التي دخلت إلى الفارسية أصبحت تشكل 60% من مفردات اللغة الفارسية، ولا نعرف لغة أخرى استعارت هذا الكم الكبير من الكلمات والمفردات من لغة أخرى مثل اللغة الفارسية التي تأثرت باللغة العربية وآدابها بشكل عميق، حتى أن الشعر الفارسي الذي يشكل كنزاً من كنوز الحضارة الفارسية وتراثاً حضارياً غنياً ولد تحت تأثير الشعر العربي، وجاء متأثراً بقوالبه الشعرية ومضامينه وموضوعاته واصطلاحاته المختلفة، ولذلك فإن الشعر الفارسي مدين للشعر العربي باعتراف الأساتذة الإيرانيين والعرب، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة كذلك إلى البلاغة والعروض والقافية التي دخلت إلى اللغة الفارسية وأصبحت تستعمل في هذه اللغة بعد أن استعارتها من اللغة العربية.

ما دام الحديث عن المثاقفة العربية الفارسية فإنه يمكننا القول بكل جرأة إن التراث الفارسي وروائع الأدب الفارسي وكنوزه هي التي دونت وكتبت بالفارسية الحديثة أي بالأبجدية العربية في مرحلة ما بعد الإسلام، ولعلنا نذكر هنا أن شاهنامة الفردوسي وهي محط اعتزاز كل الإيرانيين وافتخارهم بماضيهم وتراثهم الحضاري وبطولاتهم- وهي التي تحتوي على التاريخ الإيراني منذ فجر التاريخ وحتى سقوط الإمبراطورية الساسانية على يد العرب المسلمين- جاءت ردة فعل على الفتح الإسلامي وكانت ثمرة من ثمار المثاقفة العربية الفارسية، وبعبارة أخرى لولا الفتح الإسلامي لما عمل الفردوسي على نظم شاهنامته، ولما وجدنا اليوم شيئاً باسم الشاهنامة التي تحتوي على ما يزيد على خمسين ألف بيت، على أي حال إن الأدب الفارسي بشقيه الشعر والنثر كان ثمرة من ثمار التلاقح والتثاقف العربي الفارسي، وللتدليل على هذا فإننا إذا ما ألقينا نظرة على كتاب "تاريخ الأدب الإيراني" للدكتور ذبيح الله صفا- الذي يعد أكبر كتب تاريخ الأدب الفارسي والذي يقع في ثمانية مجلدات- فلن نجد شيئاً ذا بال عن الأدب الفارسي في مرحلة ما قبل الإسلام، لكل هذا فإن النتيجة التي نخلص إليها أن الأدب الفارسي مدين للعرب والمسلمين بشكل أو بآخر، ومن ثم فإنه ثمرة من ثمرات المثاقفة العربية الفارسية.

إن المثاقفة العربية الفارسية لم تكن من طرف واحد، فقد ساهم الفرس في هذه المثاقفة بدورهم أيضاً، ولقد تجلت هذه المثاقفة المتبادلة بين العربية والفارسية في ميادين كثيرة؛ فقد ظهرت آثارها جلية واضحة منذ عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما استعار المسلمون نظام الديوان من الفرس لتنظيم أمور الدولة، كما كانت اللغة الفارسية في القرن الثاني للهجرة مستعملة في البصرة والكوفة، ومتداولة على الألسنة كما تشهد بذلك الروايات المختلفة وبالإضافة إلى ذلك دخلت بعض المفردات الفارسية إلى العربية، وألفت كتب في الكلمات الفارسية التى دخلت العربية.

إن عملية المثاقفة هذه التي بدأت مع الفتح الإسلامي لإيران واستمرت عبر العصور بأشكال مختلفة وصور متنوعة كان من أبرزها حركة الترجمة التي بدأها عبد الله بن المقفع بترجمة كتاب "كليلة ودمنة" إلى اللغة العربية عن اللغة الفارسية البهلوية، وما زالت الترجمة بين العربية والفارسية منذ ذلك اليوم وحتى أيامنا هذه مستمرة ولم تنقطع في عصر من العصور، ولذلك فإن هنالك مئات بل آلاف الكتب التي ترجمت من الفارسية إلى العربية وبالعكس، ومن هنا فإننا ندرك الدور الكبير والمهمة العظيمة التي تقوم بها الترجمة في عملية المثاقفة العربية الفارسية أو في أي لغة أخرى، ومن أجل التأكيد على أصالة الثقافة والتراث الحضاري الفارسي ودور الفرس في الحضارة الإسلامية فإن ثمة جهوداً بذلت في إطار دراسة انجازات العرب والفرس في خدمة الإسلام، وفي هذا المضمار يمكننا الإشارة إلى كتاب "الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران" لمرتضى مطهري الذي ترجم إلى اللغة العربية.

إن المسألة الأخرى التي يجب الإشارة إليها ضمن الحديث عن المثاقفة العربية الفارسية هي دراسات الأدب المقارن التي جرت بين العربية والفارسية منذ وقت مبكر وحتى يومنا الحاضر؛ ففي المجال اللغوي أعد الجواليقي كتابه المعروف "المعرب" كما دون الخفاجي كتاب " شفاء الغليل" وصنف أدي شير كتاب " الألفاظ الفارسية المعربة" وفي مجال الأدب كتبت عشرات الدراسات والمقالات والكتب التي بحثت في مجال التأثر والتأثير في كل من الفارسية والعربية كتلك الدراسات التي تناولت المتنبي وسعدي، وأبا العلاء المعري والخيام، وأبا نواس والرودكي، وأبا فراس الحمداني و مسعود سعد سلمان، ونيما يوشيج وبدر شاكر السياب، وأدونيس وأحمد شاملو، والخيام وعرار شاعر الأردن المعروف، وليلى والمجنون، والمقامات، والخمريات وغيرها من الدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه التي كتبت في أقسام اللغة الفارسية في العالم العربي وأقسام اللغة العربية في الجامعات الإيرانية.





ليست هناك تعليقات:

الربابعة يترجم كتابين من الأدب الفارسي المعاصر خبر صدور كتاب أنطولوجيا الرواية الفارسية المعاصرة  وكتاب مراحل  الشعر   الفارسي على موقع جامع...