يعد صادق هدايت(1903-1951) أشهر الكتاب الإيرانيين في القرن العشرين،
وقد عرفه المثقفون العرب من خلال " البومة العمياء" التي ترجمها
الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا، في الستينيات من القرن الماضي،
وطبعت في مصر في أواخر السبعينيات، مع أربع عشرة قصة أخرى من آثار هدايت،
كما ترجمها عمر عدس، وطبعت في ألمانيا أواخر القرن الماضي أيضا.
أما عن قصة الكلب الضال فقد ترجمها بداية المترجم العراقي علي اللقماني تحت عنوان
الكلب السائب، وطبعت في العراق سنة 1956م،ثم ترجمها
الدكتور ابراهيم الدسوقي شتا في السبعينيات، تحت عنوان الكلب الشريد،
ثم ترجمها الدكتور عارف الزغول ضمن مقالة نشرها في مجلة كلية اللغات والترجمة
في جامعة الأزهر تحت عنوان دراسة وتحليل قصة الكلب الضال عام 2009م.
على أي حال أعتقد أن قصة الكلب الضال قصة رمزية
يعبر بها صادق هدايت عن غربته ومعاناته وعدم تأقلمه وانسجامه مع المجتمع،
وفيها يصور آلامه التي تعرض لها بعد عودته إلى طهران بعد أربع سنوات
قضاها في باريس، ومن ثم نفوره واشمئزازه من الأوضاع التي كانت سائدة
في ذلك الوقت، إذ إن الكلب يتعرض لأصناف العذاب والمعاناة والإيذاء،
وكأنه يعبر عن إنسان لفضه المجتمع، ومن ثم فإن هذه القصة رمز لحياة إنسان
غريب تائه.....إنه صادق هدايت.
إلا أن الوجه الآخر لصادق هدايت بقي مجهولا في العالم العربي؛
فقد تأثر هذا الأديب كسائر مثقفي عصره لأسباب كثيرة بالنزعة القومية
والشوفينية التي عملت على إلقاء اللوم على الإسلام والفاتحين العرب،
وكان الخطاب القومي الشغل الشاغل لهدايت حتى شكل المضمون الأول
الذي تكرر في كل آثاره، أما المضمون الثاني فكان النزعة التشاؤمية
لتي طغت على أعماله والتي قادته في النهاية إلى الانتحار في باريس سنة 1951م،
وهذ ما تجلى في أبرز أعماله: البومة العمياء، والكلب الضال،
وثلاث قطرات من الدم، وبروين ابنة ساسان، ومازيار وغيرها......
والتي كان يرى فيها أن العصر الذهبي لإيران يكمن في مرحلة ما قبل الإسلام
والمرحلة الزرادشتية، وبجملة واحدة يمكن يمكن القول
إن الفكرة التي ركز عليها هدايت تكمن في العبارة التي ذكرها في مقدمة
كتابه عن رباعيات الخيام والذي عنون له بـ" أناشيد الخيام" حيث يقول:
إن الرباعيات هي ثورة الروح الآرية على المعتقدات السامية".
استكمالا للفائدة يسعدني أن أقدم للقراء الكرام قصة الكلب الضال
التي ترجمها إلى العربية الزميل الدكتور عارف الزغول
أستاذ اللغة الفارسية في جامعة اليرموك الأردنية،
والجدير بالذكر أن هذا الموضوع كتب على هامش الدراسة
التي قدمها الأستاذ الفاضل بنده يوسف والتي جاءت موسومة بـ" سوسيولوجيا الأدب"
في المنتدى الفارسي/ الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب"واتا"
ترجمة القصة
كانت هنالك مجموعة من المحال التجارية الصغيرة المكونة من مخبز،
ومحل جزّار وآخر للعطارة، ومقهيين، وصالون حلاقة تحيط بساحة مدينة (ورامين)،
وكان أصحاب تلك المحال التجارية الصغيرة يكدحون طوال اليوم للحصول على لقمة
عيشهم، وتأمين الحد الأدنى من ضروريات الحياة، وبينما كانت شمس الصيف
المحرقة تسطع بأشعتها القهّارة على ساحة ورامين ومن فيها من البشر، راح الناس
الذين كوت وطأة الحر وجوههم ينتظرون بشائر نسيم الغروب وهبوط ظلام الليل
بفارغ الصبر؛ فقد كان الحر شديدا لدرجة تعطلت معها مظاهر الحياة والحركة في
الساحة، وانتاب الناس والمحال والأشجار وحتى الحيوانات وجوم وسكون مطبق،
إذ إن الهواء الحار كان يثقل كاهلهم كما كان الغبار الناعم يتكاثف باستمرار
ويحجب عن نواظرهم زرقة السماء جراء حركة سيارات دؤوبة لا تنقطع.
على جانب الساحة كانت تقوم شجرة صفصاف هرمة عفى عليها الزمن
وتداعى ساقها وتساقطت أجزاء منه بفعل توالي الأيام والسنين؛
ولكنها أرسلت أغصانها المعوجة المكسوة بالأوراق الصفراء فغطت جزءا
من الساحة و أقيم تحت ظل أوراقها المغبرة كشك عريض وكبير ليكون
دكاناً لصبيين صغيرين كانا يبيعان بذور الكوسى وحلوى مصنوعة
من الحليب والرز، وكانا يروجان لسلعتيهما بصوتٍ جهوري،
و كان الجدول الذي يمر من أمام المقهى بمائه العكر المخلوط
بالطين ينساب بصعوبة بالغة، أما البناء الوحيد الذي كان يشد الأنظار
حول الساحة فهو برج ورامين المشهور الذي بدا للعيان برأسه المخروطي
وجسمه المتصدع، وقد صنعت العصافير أعشاشاً لها في شقوقه وتصدعاته،
وبدت تلك العصافير- وقد أعياها الحر- خاملة تصارع النعاس؛
بينما كان يخيم على ساحة ورامين صمت مطبق لا يقطعه إلا عواء كلب
كان يتكرر من حينٍ إلى آخر؛ إنه كلب من سلالة اسكتلندية ذو وجه رمادي
مائل للاصفرار، وأرجل مشوبة ببقع سوداء تبدو وكأنها غاصت في وحلٍ أسود آسنٍ
تناثر عليها، وله أذنان مخروطيتان وذيل برّاق وشعر ملتف ومتسخ، بينما كانت
عيناه اللتان تشبهان عيني إنسان متوقد الذكاء تسطعانِ وسط وجهه الشعور،
وكأن روحاً إنسانية تُشاهد في أعماقها.
في منتصف ذات ليلة مفعمة بالحياة، كان يموج في نواظره شيء لا نهاية له،
ذلك الشيء كان بمثابة رسالة من الصعب إدراكها، رسالة عصية على الفهم
عالقة وراء أحداق عينيه، لم تكن تلك الرسالة على هيئة نور أو لون؛
بل كانت شيئاً آخر لا يمكن تصوره، إنه شيء شبيه بتلك الحالة التي لا تشاهد
إلا في عيني غزالٍ جريح، فقد كانت عينا ذلك الكلب تشبهان عيني الإنسان إلى
حدٍ بعيد يصل إلى درجة التطابق، فعيناه الوادعتان الحائرتان المليئتان بالألم
والمعاناة والترقب لا يمكن مشاهدتهما إلا في وجود كلب حائر تائه، بدا وكأنه لا أحد يقدر على إدراك نظراته المؤلمة المتضرعة.
كان صبي المخبز يعمل على ضرب هذا الكلب بقسوة أمام مخبزه،
كما كان يتعرض للرجم بالحجارة أمام الجزار، وحينما كان يأوي إلى ظل سيارة
ما ليستريح من عنائه كانت ركلات حذاء السائق المرصع بالمسامير في انتظاره،
وعندما كان الجميع يتعبون من إيذائه وتعذيبه كان الصبي بائع الرز بالحليب ينهال
عليه ضرباً بالحجارة، فيختلط عواء الكلب بقهقهات الصبي الشامت الذي كان
يشتمه بقوله:"أيها الكلب الملعون"! و يبدو أن إيذاء الصبّي للكلب كان يروق
للآخرين فيشجعونه من طرف خفّي وبكل لؤم وخبث بضحكاتهم وقهقهاتهم؛
فهم يضربون هذا الكلب مرضاة لله تعالى؛ إذ إن إيذاءه من وجهة نظرهم كان
أمراً طبيعياً للغاية؛ فهو كلب نجس وملعون في الدين وله سبعون روحاً
وتعذيبه مدعاة للمغفرة والثواب.
في نهاية المطاف أمعن الصبي بائع الرز بالحليب في إيذاء الكلب الذي اضطر
للفرار صوب الزقاق المؤدي إلى البرج، واستطاع هذا الكلب الجائع أن يجر جثته
المتداعية وأن يلجأ إلى جدول ماء، ثم وضع رأسه على يديه وأخرج لسانه من فمه،
و بين النوم واليقظة راح يحدق بالسهل الأخضر الذي كان يموج بخضرته أمام ناظر
ه، فقد كان جسمه متعباً، وكان الألم يسري في جميع أوصاله، لكن هواء الجدول
العليل البارد أسبغ عليه إحساساً بالانتعاش الذي سرى في كل وجوده.
انبعثت الروائح المختلفة من الأعشاب الخضراء المائلة للصفرة، ورائحة حذاء قديم
مبلل بماء الجدول بالإضافة إلى روائح الأشياء الحيّة والميتة المحيطة بالكلب
المنهك؛ وأيقظت فيه هذه الروائح ذكريات بعيدة ومبهمة، وكلما كان ينظر إلى
المرج الأخضر الممتد أمامه، كانت ميوله الغريزية وكل ذكرياته تحيا وتستيقظ
في مخيلته من جديد، فقد كانت هذه التداعيات التي أيقظت أحاسيسه هذه المرة
مختلفة عن كل المرات السابقة؛ إذ استيقظت بقوة وكأن صوتاً كان يهمس في أذنيه
ويلح عليه بالنهوض والوثب والقفز، وانتابته رغبة جامحة بأن يركض في هذه
المروج الخضراء وأن يقفز كيفما يشاء، لقد كان هذا إحساساً موروثاً لديه، فأجداده
كانوا قد تربوا جميعهم بحرية في مروج اسكتلندا الخضراء، إلا أن التعب والارهاق
كانا قد نَالا منه وحالا دونه ودون أي حراك، وانتابه إحساس مؤلم ممزوج بالضعف
والعجز أدى إلى ثورة متدفقة من المشاعر والأحاسيس المنسية الضائعة، فقد كانت
حياته السابقة تسير ضمن نظام خاص يلبي جميع احتياجاته، كان يلزم نفسه
بإطاعة أوامر صاحبه ويسارع إليه دونما تردد، كلما كان يناديه لطرد شخصٍ
متسلل أو كلب غريب اقترب من حريم المنزل، أو عندما كان يستدعيه من أجل اللعب
مع أطفال العائلة، وكان يتناول طعامه ويحظى بمداعبات صاحبه في أوقات معينة
أيضاً، بيد أنه أصبح الآن فاقداً لكل هذه الامتيازات، وهمه الوحيد الحصول بخوف
وفزع على قليل من الطعام من القمامة، على الرغم من تلقيه الضربات والكدمات
طوال اليوم دونما أدنى مقاومة أو دفاع عن النفس باستثناء العواء؛ فقد أصبح
العواء سلاحه الوحيد لدرء كل هذا الظلم؛ في حين كان في السابق جريئاً وشجاعاً
ونظيفاً ومفعماً بالحيوية والنشاط، أما الآن فأصبح جباناً وذليلاً ويفزع من أدنى
صوت أو حركة، حتى أنه أصبح يخاف من نباحه وعوائه، واعتاد على القذارة
والاقتيات من حاويات المهملات والقاذورات، وكان يحس بحكة في جميع أنحاء
جسمه ولم يكن لديه حافز للعق بدنه أو نزع ما علق به من حشرات وبراغيث
كانت تلدغه باستمرار، كان يشعر بأنه أصبح مهملاً كالزبالة والنفايات، وأن جذوة
الحياة التي كانت تتقد في أعماقه قد خبت وماتت.
مرّ على هذا الكلب عامان كاملان منذ أن وقع في هذا الجحيم، وخلال هذين
العامين لم يظفر بوجبة طعام كاملة كما لم تذق جفناه طعم نوم هادئ، وبدا وكأن
جذوة مشاعره ورغباته قد انطفأت منذ أمد بعيد، إذ انقضت سنتان من عمره دون
أن تمتد إليه يد عطوفة فتربت على رأسه أو ينظر أحد في عينيه نظرة معبرة،
فظاهر الناس هنا يشبه ظاهر صاحبه إلى حد بعيد، ولكن يبدو أن أخلاق ومشاعر
صاحبه بعيدة عن أخلاقهم ومشاعرهم بعد السماء عن الأرض، و أناس بيئته
السابقة قريبون جدا من عالمه ودنياه لأنهم كانوا يفهمون آلامه وآماله جيداً وكانوا
يوفرون له الأمان والاستقرار.
من بين الروائح التي كانت تزدحم في مشامه رائحة كانت تسبب له الدوار،
وهي رائحة الحليب بالرز الذي كان يبيعه الصبي جانب الساحة، إنه الحليب،
هذا السائل الأبيض الذي يشبه حليب أمه إلى حد بعيد، كان يجسد في مخيلته
ذكريات طفولته، فأمام هذه الدفقة الغزيرة من الذكريات انتابته حالة مفاجئة
من اللاشعور والاستغراق في المكاشفة والذكريات، وجال في خاطره أيام كان جرواً
رضيعاً يرضع من ثدي أمه،و يقتات من ذلك السائل الأبيض الدافئ المغذي،
بينما كانت أمه تغمره بحنانها وتلعق بدنه بلسانها الناعم لتنظيفه مما علق به،
وتذكر تلك الرائحة النفاذة التي كان يشمها، بينما كان يرقد مع أخيه في حضن
أمهما؛ إنها رائحة أمه ورائحة حليبها النفاذة التي انبعثت في مشامه من جديد،
فعندما كان يرتوي ويشبع من حليب أمه، كان يشعر بالارتياح الدافئ،
لقد كان دفئاً سيالاً يسري في كل شرايينه وأوصاله، وحينما كان يحس بالارتواء
والشبع كان النعاس يغلبه ويأخذه في سبات عميق، تعقبه ارتعاشات لذيذه تبث
الحرارة والنشوة في كل كيانه، لقد كانت سعادته حين كان في أحضان أمه تفوق
كل سعادة؛ فبمحض ضغطه بكلتا يديه على ثديها- على نحو لا إرادي -كان الحليب
يتدفق منه دون أدنى تعب أو عناء، وبالإضافة إلى كل هذا وذاك فقد كان ملمس
شعر أخيه الناعم وسماع صوت أمه التي لا تنفك تحنو عليه يغمره بفيض
من النشوة والحنان ، وتذكر بيته الخشبي السابق كما تذكر لعبه ومرحه
مع أخيه في تلك الحديقة الغناء المزدانة بالاخضرار، تذكر كيف كان يعض
أذني أخيه اللولبيتين، وكيف كانا يسقطان أرضاً وينهضان ثانية ويركضان
ويمرحان، وتذكر ابن صاحبه الذي كان يلاعبه ويداعبه أيضاً، وتذكر كيف
كان يعضه من ثيابه ويطارده نابحاً حتى آخر الحديقة، وتداعت في مخيلته
مداعبات صاحبه التي لن ينساها أبداً، كما لن ينسى حلاوة قطع السكر التي
كان يأكلها من يديه، و تذكر كيف كان يحب ابن صاحبه أكثر من غيره؛
لأنه كان رفيقه في اللعب ولم يكن يضربه على الإطلاق، وتذكر كيف أضاع
والدته وأخيه ولم يبق إلى جانبه سوى صاحبه وزوجته وابنهما وخادمهما
العجوز، وما زال يشخّص ويميز رائحة كل واحد منهم جيدا؛ ويعرف وقع
خطى أقدام كل واحد منهم من بعيد، لقد كان يدور حول المائدة وقت الغداء
والعشاء وكان يستمتع برائحة الطعام، وكثيراً ما كانت زوجة صاحبه تناوله
لقمة من المائدة – على الرغم من معارضة زوجها- إلى أن يأتي الخادم العجوز
ويناديه (بات...بات) ثم يضع طعامه في وعائه الخاص إلى جانب بيته الخشبي.
سُكر (بات) وجنونه كان سبباً لتعاسته ومعاناته؛ فقد كان صاحبه لا يسمح له
بمغادرة المنزل والاختلاط بإناث الكلاب...وفي يومٍ من أيام الخريف استقل صاحبه
السيارة مع شخصين آخرين كان (بات) يعرفهما جيدا لترددهما على منزل صاحبه
مراراً وتكراراً، ثم نادوا بات وأجلسوه في السيارة إلى جانبهم، لقد سافر (بات)
عدة مرات مع صاحبه بالسيارة لكنه هذه المرة كان ثملاً وواقعا تحت تأثير إثارة
واضطراب شديدين، وبعد بضع ساعات من المسير ترجل الجميع من السيارة
في هذه الساحة، ثم اندفع صاحبه ورفيقا سفره عبر الزقاق الذي يمر من جانب
البرج ولكن رائحة نفاذة لكلبة كانت في ذلك المكان علقت في مشام بات صدفة؛
فأيقظت غرائزه فجأة وأثارتها لدرجة الجنون، إنها الرائحة التي كان بات يبحث
عنها ويحلم بها باستمرار، فراح يقتفي أثر تلك الرائحة ويتحسس اتجاهها
حتى قادته إلى أحد البساتين المسورة، فدخل البستان من خلال قناة ماء
أوصلته إلى مبتغاه.
عند الغروب، سمع بات صوت صاحبه وهو يناديه باسمه (بات...بات)
ولكنه لم يكن متيقنا من ذلك، وترآى له أن ما سمعه كان صدىً شبيهاً
بصوت صاحبه قد تردد في مسامعه، إن صوت صاحبه كان يترك وقعاً كبيراً
في نفسه، لأنه كان يذكّره بكل التعهدات والالتزامات الملقاة على عاتقه؛
لكن قوة أقوى من كل المؤثرات الخارجية أجبرته على البقاء مع تلك الكلبة،
لقد أحس بات أن مسامعه قد تخدرت، ولم تعد قادرة على سماع ما يجري حوله
لأن الرائحة النفاذة لتلك الكلبة قد أيقظت غرائزه وأحاسيسه بعنف شديد
وأصابته بالذهول والدوار؛ فلم تعد جوارحه وأعضاء بدنه طوع إرادته واختياره،
و لم يمض طويل وقت حتى داهمه أصحاب البستان وأوسعوه ركلاً وضرباً
بالعصي والفؤوس وأخرجوه من البستان من حيثما جاء.
كان (بات) في هذه الأثناء ثملاً، ومنتشياً ومتعباً إلى حد ما، لكنه كان يستشعر
الراحة والانتعاش أيضا، وما أن استفاق من سكرته وذهوله وعاد إلى حالته الأولى
حتى بدأ بالبحث عن صاحبه ويتحسس أثره فلم يستشعر إلا بقايا ضعيفة من رائحة
ما زالت عالقة في نهايات بعض الأزقة القريبة من الساحة، وراح يبحث عنه
في تلك الأزقة وترك علاماتٍ مميزة عن نفسه في عدة مواضع علّ صاحبه
يراها ويهتدي إلى مكانه، ثم وصل في بحثه عن صاحبه إلى الخرائب المهجورة
خارج المدينة دون جدوى، فعاد أدراجه لأنه أدرك أن صاحبه رجع إلى الساحة ثانية،
إلا أن رائحته الضعيفة ضاعت هناك بين الروائح الأخرى، و راح (بات) يسأل نفسه
باستغراب: "هل غادر صاحبه المكان دون رجعة وتركه وحيدا؟" هذا التساؤل
ولد في داخله إحساسا بالرعب والاضطراب، فكيف له أن يعيش دون صاحبه
وولي نعمته، وهو بمثابة الرب والمعبود بالنسبة له؟ لكنه أمام هذه الهواجس
والتساؤلات كان واثقاً من أن صاحبه سوف يعود للبحث عنه حول الساحة،
فراح يعدو مذعوراً في عدة طرقات بحثاً عن صاحبه، لكن جهده ضاع سدى.
في نهاية المطاف وعندما خيم الظلام عاد ثانية إلى الساحة متعباً مرهقاً
ولم يعثر على صاحبه؛ فطاف في البلدة عدة مرات دون جدوى، ثم ذهب
إلى حيث القناة التي التمَ عندها شمله مع خليلته أول مرة، لكنه وجد مدخل القناة
الذي ينفذ إلى داخل البستان مغلقاً ومسدوداً بالحجارة ولم يستطع الدخول،
راح بات يحفر الأرض بيديه بحرارة وحماس عله يستطيع الدخول،
لكن الدخول كان محالاً، وبعد أن انتابه شعور باليأس والإحباط راح يغالب النعاس،
وقد حال سور البستان والقناة المغلقة بينه و بين خليلته.
استفاق بات منتصف الليل مذعوراً وقد أفزعه أنينه، وراح يتسكع في عدة أزقة
على غير هدى يشتم الجدران والطرقات علّه يقع على أثر صاحبه، وبقى حائراً
وهائماً على هذا النحو حتى بلغ منه الجوع مبلغه، وشعر بميل شديد للطعام،
وعندما عاد إلى الساحة من جديد؛ تزاحمت في مشامه روائح ما لذَّ وطاب من
الطعام، واختلطت رائحة اللحم برائحة اللبن والخبز الطازج، لكنه في الوقت نفسه
كان يشعر بأنه مذنب لتعديه على حريم ملك الآخرين، وأيقن أن عليه أن يتسول
من هؤلاء الأشخاص الذين يشبهون صاحبه للحصول على لقمة العيش،
وبدا له أنه قد يستقر في هذا المكان وقد يجد من يأويه ويرعاه إن لم يأت منافس
آخر ويطرده عنوة.
تقدم (بات) باحتياط ووقف خائفاً مرتجفاً أمام المخبز الذي فتح أبوابه لتوه؛
وانتشرت من داخله رائحة الخبز والعجين النفاذة في جميع أرجاء الساحة،
وبينما كان واقفاً أمام المخبز، تقدم نحوه رجل يحمل تحت أبطه بضعة أرغفة
من الخبز؛ إنه صبي المخبز الذي راح ينادي بات بقوله: "تعال...تعال" لكن
صوت ذلك الصبي لم يكن مألوفاً لديه، ومع ذلك فقد قذف له قطعة من الخبز
الساخن، وتردد بات قليلاً قبل أن يلتهم قطعة الخبز تلك، وعندما أكلها راح
يحرك ذيله شكرا وعرفانا لذلك الرجل، عندئذ وضع الرجل أرغفة الخبز جانبا
وتقدم نحو بات بشيء من الخوف والاحتياط ماسحاً بيده على رأسه من قبيل التودد
والتحبب، وحينما وجده وديعاً مسالماً، نزع السلسلة المعدنية التي كانت حول عنقه،
وعندما أُنتزعت السلسلة أحس بات بالارتياح، وبدا له و كأنه قد تحلل من كل
المسؤوليات والقيود والواجبات التي كانت تثقل كاهله، وما أن حرك بات ذيله
واقترب من صبي المخبز حتى فاجئه بركلة قوية على خاصرته فعوى من شدة الألم
وولى هارباً لا يلوي على شيء، بعد ذلك ذهب صبي االمخبز إلى جدول الماء وغسل يديه بعد أن علق على باب المخبز تلك السلسلة التي يعرفها بات جيدا وتم انتزاعها من حول عنقه.
منذ ذلك اليوم بدأت معاناة بات فهو لم ير من أولئك الناس سوى الركل والضرب
بالحجارة والعصي؛ كأنهم أعداء لدودون لا يتورعون عن الاستمتاع بإلحاق
الأذى به، إزاء هذا الوضع كان بات يشعر أن القدر ساقه إلى دنيا جديدة لا ينتمي
إليها بأي حالٍ من الأحوال؛ فهي تخلو ممن هو قادر على درك أحاسيسه وفهم
مشاعره، لقد قضى (بات) الأيام الأولى من ضياعه بصعوبة وعناء، لكنه مع مرور
الزمن اعتاد على ذلك الوضع الصعب بالتدريج، و بالإضافة إلى ذلك فقد تعرف على
مكب للنفايات يقع في بداية المنعطف الواقع في أول الزقاق القريب من الساحة،
وكان يقضي في ذلك المكب جزءاً من يومه يبحث بين أكوام القمامة عن قطع من
الطعام الشهي كالعظام والشحوم والجلود وأنواع أخرى من الطعام لا يعرفها،
كما كان يقضي ما تبقى من اليوم أمام المخبز ودكان الجزار، كانت عيناه تحدقان
بيد القصاب عله يجود عليه بشيء يأكله من سقط اللحم، لكن نصيبه من الضرب
والركل والإيذاء كان يفوق ما يتيسر له من دكان الجزار؛ إذ إنه اعتاد على النمط
الجديد لحياته البائسة ولم يبق له من حياته السابقة سوى حفنة من تصورات
مبهمة غامضة،وبقايا من روائح ما زالت عالقة بمشامه، و كان (بات) لا يتردد
بالعودة إلى ماضيه وفردوسه المفقود كلما قست عليه ظروف الحياة على نحو
يسترجع فيه ذكريات الماضي التي كانت تتجسد أمام عينيه بشكل لا شعوري،
تلك العودة إلى دنياه القديمة كانت تمنحه نوعاً من تسلي الخاطر والصبر على
قساوة هذا الواقع المؤلم المرير؛ لكن ثمة شيئا كان يطغى على أوجاعه وآلامه كلها؛
ألا وهو تعطشه الشديد للحنان، فحاله كانت كحال طفل لم ير سوى القمع والشتم
والتحقير، لكن أحاسيسه ومشاعره الشفافة لم تنطفئ وما زالت تنبض بالحياة
والحنان، وفي ظل هذه الحياة الجديدة القاسية والمليئة بالألم والحسرة والاضطهاد
أصبح بات بحاجة إلى شيء من العطف والشفقة، وكانت عيناه الوادعتان
الجميلتان تستجديان هذا العطف وكان على استعداد لأن يقدم روحه فداءً لمن
يحنو عليه أو يربت على رأسه وكتفيه، كما كان تواقا لمصاحبة شخص ما،
يبادله حباً بحب ووفاءً بوفاء، لكن يبدو أن العثور على شخص يحميه ويبلغه
مأمنه ضرب من الخيال لأن عيون كل من كان يواجههم لا تشي إلا بالحقد والشر،
وأيقن أن كل ما كان يقوم به من حركات للفت أنظار الآخرين إليه، ما كانت
تثير إلا غضبهم وحنقهم عليه.
أثناء تلك الحالة التي كان بات خلالها يكبو ويغالب النعاس داخل الجدول،
ارتفع صوته بالأنين عدة مرات، واستيقظ على أثرها بفزع ورعب،
و كأن شريطاً من الكوابيس المخيفة كان يمر في مخيلته، ثم أحس بجوع شديد
ولا سيما لدى استنشاقه رائحة الشواء المنبعثة من صوب ساحة البلدة حيث
أججت في أعماقه آلام وعذابات جوع قهار لا يرحم، طغت على كل آلامه
ومصائبه الأخرى، نهض بات بصعوبة وتثاقل واتجه صوب الساحة بتردد وحذر.
في هذه الأثناء وصلت سيارة إلى ساحة ورامين فأحدثت ضوضاء وأثارت التراب
والغبار قبل أن يترجل منها رجل ويتجه نحو(بات) ويربت على رأسه وظهره،
لكن ذلك الرجل لم يكن صاحبه؛ لأن بات كان يميز رائحة صاحبه جيداً ويعرفه
حق المعرفة، و تسائل بات في نفسه كيف وجد من يداعبه ويعطف عليه!
فحرك ذيله ونظر إلى ذلك الرجل بتردد وسأل نفسه ثانية: "ألم يخدع هذا
الرجل حقاً؟" حيث لم يعد في رقبته سلسلة كي يداعبه أحد طمعا بسلبه إياهاّ،
عاد الرجل ومسح بيده على رأس بات ثانية، ثم مضى في طريقه فما كان
من بات إلا أن تبعه حتى دخل إلى غرفة كان بات يعرفها جيداً، لأن رائحة الطعام
كانت تنبعث منها على الدوام، وكان هذا الرجل يجلس على أريكه وضعت بجانب
الجدار، ثم احضروا له خبزاً طازجاً ولبنا وبيض دجاج وبعضاً من أطعمة أخرى،
و بينما كان الرجل يتناول طعامه، كان يغمس قطعاً من الخبز باللبن ويلقيها أمام
(بات) الذي راح يلتهمها في بادئ الأمر بشراهة ونهم حتى شبع ثم بدأ يأكل
كالمعتاد، لكن عينيه الوادعتين اللتين تفيضان جمالاً وخضوعاً، بقيتا تحدقان
بوجه ذلك الرجل اعترافاً له بالجميل، وبينما كان يحرك ذيله تعبيراً عن الشكر
والعرفان كان يسأل نفسه: "هل هو في حلم أم في يقظة؟" فقد حصل على وجبة
طعام كاملة دون أن يتعرض للضرب والاذلال، ثم سأل نفسه من جديد : "هل من
الممكن أن يكون قد وجد صاحباً جديداً؟ " كان الحر على أشده عندما نهض ذلك
الرجل وسار صوب الزقاق القريب من البرج، ومكث برهة من الزمن ثم تابع
مسيره عبر ذلك الزقاق المتعرج، بينما كان بات يتبعه حتى خرجا من البلدة،
عندئذ دخل الرجل إلى منزل خرب ومهجور لم يبق قائماً منه إلا بضعة جدران،
وهو المنزل الذي كان صاحبه قد دخله ذات مرة، و جال في خاطر بات
أن هؤلاء الناس ربما يبحثون أيضاً عن خليلات لهم، وقف (بات) في ظل
الجدار إلى أن خرج الرجل من المنزل المهجور ثم عادا معا إلى ساحة الميدان
عبر طريق أخرى، مسح الرجل على رأس بات ثانية ثم اصطحبه في نزهة سريعة
مشياً على الأقدام في أرجاء الساحة، بعد ذلك استقل الرجل إحدى السيارات التي
كان بات يعرفها، عندئذ وقف بات أمام السيارة بوجوم ولم يجرؤ على الصعود إلى
السيارة، لكنه مكث واقفاً وعيناه مشدودتان إلى ذلك الرجل إلى أن انطلقت السيارة
فجأة تاركة وراءها سحابة من الغبار، اندفع (بات) وراء السيارة على الفور؛ لأنه
لم يكن على استعداد لفقدان هذا الرجل الذي أحسن إليه، و راح يركض وراء
السيارة لاهثا وقد نال منه التعب والإعياء، ومع أنه كان في تلك الأثناء يشعر
بآلام مبرحة في جميع أنحاء جسمه؛ إلا أنه استمر بالوثب خلف السيارة على أمل
اللحاق بها، لكن السيارة التي كانت تنهب الطريق نهباً عبر السهول الممتدة،
ابتعدت عن البلدة بسرعة، وقد تمكن بات من اللحاق بها عدة مرات إلا أنها كانت
تتخطاه في كل مرة، لكن اليأس لم يكن يجد إلى قلبه سبيلاً، فكان يستجمع قواه
ثانية ويستمر في الوثب والعدو السريع إثرها دون جدوى لأنها كانت أسرع منه.
بدون شك كان (بات) مخطئاً في إصراره على اللحاق بالسيارة؛ لأن اللحاق بها
كان يبدو أمراً محالاً، لقد أذعن بات للهزيمة وأحس بالعجز والانكسار، وشعر أن
قواه قد خارت وأن أعضاء بدنه قد وهنت، وأصبحت خارجة عن سيطرته فلم يعد
قادراً على القيام بأدنى حركة، وأدرك أن كل جهوده كانت عبثاً، ولم يعرف لماذا
كان يركض خلف السيارة، كما أنه لم يعرف إلى أي مكان يذهب وأظلمت الدنيا أمام
عينيه وضاقت به الأرض، ولم يكن بمقدوره أن يُقدم أو يحجم، وقف بات لاهثاً
بشدة بينما كان فاغر الفم وقد خرج لسانه من فمه من شدة اللهاث، ولم يعد قادراً
على مشاهدة ما يجري حوله جراء غشاوة سوداء تشكلت أمام نواظره.
استجمع (بات) قواه وزحف بصعوبة بالغة وجثم إلى جانب الجدول الذي كان
يمتد عبر المرج الأخضر المحاذي للطريق، ثم ألقى بجسمه المتداعي فوق
رمال الجدول الدافئة الرطبة وأيقن بإحساسه الغريزي الذي لم يخدعه قط بأنه
لن يكون قادراً على أن يبرح هذا المكان، ثم أحس بدوار أفقده توازنه كما أحس
أن مشاعره وأحاسيسه قد أسودت ومُحيت تماماً، وبينما كانت عيناه تسطعان
بنور خافت كان يعاني من آلام مبرحة في بطنه وأطرافه، و سرعان ما تحولت
هذه الآلام إلى تشنجات شلّت يديه ورجليه وأفقدته القدرة على الحركة والإحساس،
وتصبب عرق بارد على جميع أجزاء جسمه جعله يحس بشيء من الراحة
والانتعاش ولكن إلى حين.
كانت الشمس على وشك المغيب عندما جاءت ثلاثة غربان سوداء وراحت
تحوم فوق رأس (بات)؛ و قد اشتمت رائحة بات المشرد من بعيد، حط أحد
الغربان الثلاثة على مقربة من بات باحتياط وتفحصه بدقة، وعندما أيقن
أن بات المحتضر لم يمت بعد؛ بل ما زال فيه رمق من حياة، حلق ثانية
في السماء، وبداأن تلك الغربان الجارحة جاءت لاقتلاع عيني بات
الوادعتين الجميلتين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق