الأحد، 17 أكتوبر 2010

الترجمة والمثاقفة: كتاب صورة العرب في الأدب الإيراني المعاصر أنموذجاً

الترجمة والمثاقفة: كتاب صورة العرب في الأدب الإيراني المعاصر أُنموذجاً

 مجلة فصول المصرية، العدد 74 / خريف 2008

لا شكّ أن الترجمة بين اللغات المختلفة التي كانت على مر العصور أهم وسيلة للمثاقفة بين الأمم والشعوب أضحت من القضايا التي تشغل بال الكثير من المهتمين بالترجمة ودراسات الأدب المقارن ودورها في المثاقفة، وفي إطار الحديث عن أهمية الترجمة ودورها في المثاقفة وتلاقح الأفكار والتلاقي مع الأمم والشعوب الأخرى- من خلال فكرة حوار الحضارات والتواصل والتقارب لا القطيعة والتنافر- يمكننا أن ندرس صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر،وهي قضية جديرة بالبحث والدراسة والتحليل؛ فإذا ما أخذنا كتاب " معاداة العرب في الأدب الإيراني المعاصر" للباحثة والمستشرقة الأمريكية جويا بلوندل سعد(1) أُنموذجاً لهذه الدراسة، والذي ترجمته إلى اللغة العربية وسيأخذ طريقه إلى النشر قريبا إن شاء الله ، فإنه يمكننا القول: إن هذا الكتاب حظي بما لم يحظ به غيره من الكتب الأخرى؛ فقد أحدث هذا الكتاب حراكاً ثقافياً في لغات ثلاثة هي: الانجليزية والفارسية والعربية، وربما تنتقل هذه الظاهرة التي قل مثيلها إلى لغات أخرى في وقت قريب وهي مؤهلة لذلك؛ إذ إن صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر هي الموضوع الذي بحثته المؤلفة في كتابها هذا، والذي انعكس في اللغة الانجليزية وترك تأثيره في الناطقين بهذه اللغة ولا سيما النخبة الثقافية منهم، ثم انتقل هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية عن طريق ترجمة السيدة فرناز حائري، وتصحيح ومراجعة السيد ناصر بور بيرار، وترك انعكاسات متنوعة ظهرت في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية داخل إيران وخارجها، خاصة عن طريق بعض مثقفي عرب إيران، وخير مثال على ذلك السيد يوسف عزيزي بني طرف الذي كتب عدة مقالات حول هذا الكتاب وهذه الظاهرة(2).
قدّر لهذا الكتاب ولهذه الظاهرة أن ينتقلا إلى اللغة العربية؛ فقد كتب صاحب هذه المقالة دراسة موسومة بـ " صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر" اشتملت على مقدمة وتحليل وإضاءة لهذا الموضوع، بالإضافة إلى ترجمة الفصل الخامس من الكتاب عن اللغة الفارسية، ونشرت هذه الدراسة في مجلة أفكار الأردنية (3) ، كما قام بترجمة الجزء الخاص بصادق هدايت أواخر عام 2006 وإرساله إلى إحدى المجلات المحكمة ضمن مقالة موسومة بـ: " صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر: صادق هدايت أُنموذجاً"(4) والتي صدرت في العدد الأخير من مجلة كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر، وبالإضافة الى ذلك عمل على ترجمة الفصل الأول من هذا الكتاب ونشره في مجلة أفكار تحت عنوان "مدخل إلى صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر"(5) وبدون مبالغة فقد كان لهذه المقالات انعكاسات واسعة على الصعيد الثقافي وبين النخبة الثقافية داخل الأردن وخارجه، إذ وصلت مجلة أفكار إلى دول عربية عديدة؛ ففي مؤتمر كلية الآداب الأول الذي عقد في رحاب جامعة اليرموك وشارك فيه أساتذة أجلاء من أكثر من عشر دول عربية كانت مجلة أفكار في عددها المذكور بين أيدي بعضهم وقد أثارتهم المقالة المشار إليها، إذ شكلت هذه الظاهرة صدمة للجميع؛ فقد استغرب المثقفون العرب هذه الصورة المشوهة الظالمة، وفي بدايات العام الحالي (2008) اطلعت على مقالة كتبها الدكتور فيصل دراج في موقع ديوان العرب(6) عرض فيها كتاب : "صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث" الذي ترجم إلى اللغة العربية عن اللغة الإنجليزية، وقد ترجمه السيد صخر الحاج حسين وراجعه السيد زياد منى وصدر عن دار قدمس في دمشق أواخر سنة 2007م، ولاقى هذا الموضوع رواجاً في الشبكة العنكبوتية، وكتبت حوله العشرات من الدراسات والتعليقات المختلفة، ويكفي أن نضع عنوان: صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر، ونبدأ بالبحث في محرك البحث " google " أو " yahoo" حتى نعثر على الكثير من هذه الدراسات والمقالات(7).

المثاقفة العربية الفارسية

إنّ المثاقفة العربية الفارسية ليست مسألة جديدة، بل إنها قديمة وجذورها ضاربة في أعماق التاريخ، والدليل على ذلك الكلمات الفارسية التي تسربت إلى اللغة العربية في هذه المرحلة والتي ورد بعضها في القرآن الكريم؛ بيد أن المثاقفة العربية الفارسية برزت بشكل واضح في مرحلة ما بعد الإسلام، وتجلت في مسائل كثيرة منها الثقافية واللغوية والاجتماعية والدينية وغيرها؛ ففي المجال اللغوي يكفي أن نعرف أن الأبجدية العربية دخلت إلى اللغة الفارسية محدثة مرحلة جديدة ومنعطفاً تاريخياً في اللغة الفارسية وآدابها حتى وصل الأمر إلى تقسيم اللغة الفارسية إلى مراحل ثلاثة هي: الفارسية القديمة ( 1000- 331 ق.م) والفارسية البهلوية (331 ق.م- 254هـ) والفارسية الحديثة التي يؤرخ لها بسنة 254هـ وحتى الآن(8).
استبدلت الفارسية الحديثة أبجديتها القديمة وأصبحت تستعمل الحروف العربية، ومن هنا أحدثت العربية ثورة في اللغة الفارسية عزّ مثيلها في اللغات الأخرى، ولذلك يمكننا القول بكل اطمئنان إن المثاقفة العربية الفارسية لا مثيل لها في اللغات الأخرى، فقد وصل هذا التثاقف إلى درجة أن الكلمات العربية التي دخلت إلى الفارسية أصبحت تشكل 60% من مفردات اللغة الفارسية، ولا نعرف لغة أخرى استعارت هذا الكم الكبير من الكلمات والمفردات من لغة أخرى مثل اللغة الفارسية التي تأثرت باللغة العربية وآدابها بشكل عميق، حتى أن الشعر الفارسي الذي يشكل كنزاً من كنوز الحضارة الفارسية وتراثاً حضارياً غنياً ولد تحت تأثير الشعر العربي وجاء متأثراً بقوالبه الشعرية ومضامينه وموضوعاته واصطلاحاته المختلفة، ولذلك فإن الشعر الفارسي مدين للشعر العربي باعتراف الأساتذة الإيرانيين والعرب، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة كذلك إلى البلاغة والعروض والقافية التي دخلت إلى اللغة الفارسية وأصبحت تستعمل في هذه اللغة بعد أن استعارتها من اللغة العربية.
ما دام الحديث عن المثاقفة العربية الفارسية فإنه يمكننا القول بكل جرأة إن التراث الفارسي وروائع الأدب الفارسي وكنوزه هي التي دونت وكتبت بالفارسية الحديثة أي بالأبجدية العربية في مرحلة ما بعد الإسلام، ولعلنا نذكر هنا أن شاهنامة الفردوسي وهي محط اعتزاز كل الإيرانيين وافتخارهم بماضيهم وتراثهم الحضاري وبطولاتهم، وهي التي تحتوي على التاريخ الإيراني منذ فجر التاريخ وحتى سقوط الإمبراطورية الساسانية على يد العرب المسلمين جاءت ردة فعل على الفتح الإسلامي وكانت ثمرة من ثمار المثاقفة العربية الفارسية، وبعبارة أخرى لولا الفتح الإسلامي لما عمل الفردوسي على نظم شاهنامته، ولما وجدنا اليوم شيئاً باسم الشاهنامة التي تحتوي على ما يزيد على خمسين ألف بيت، على أي حال إن الأدب الفارسي بشقيه الشعر والنثر كان ثمرة من ثمار التلاقح والتثاقف العربي الفارسي، وللتدليل على هذا فإننا إذا ما ألقينا نظرة على كتاب "تاريخ الأدب الإيراني" للدكتور ذبيح الله صفا- الذي يعد أكبر كتب الأدب الفارسي والذي يقع في ثمانية مجلدات- فلن نجد شيئاً ذا بال عن الأدب الفارسي في مرحلة ما قبل الإسلام، لكل هذا فإن النتيجة التي نخلص إليها أن الأدب الفارسي مدين للعرب والمسلمين بشكل أو بآخر، ومن ثم فإنه ثمرة من ثمرات المثاقفة العربية الفارسية.
إن المثاقفة العربية الفارسية لم تكن من طرف واحد، فقد ساهم الفرس في هذه المثاقفة بدورهم أيضاً، ولقد تجلت هذه المثاقفة المتبادلة بين العربية والفارسية في ميادين كثيرة؛ فقد ظهرت آثارها جلية واضحة منذ عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما استعار المسلمون نظام الديوان من الفرس لتنظيم أمور الدولة، كما كانت اللغة الفارسية في القرن الثاني للهجرة مستعملة في البصرة والكوفة، ومتداولة على الألسنة كما تشهد بذلك الروايات المختلفة(9) وبالإضافة إلى ذلك دخلت بعض المفردات الفارسية إلى العربية، وألفت كتب في الكلمات الفارسية التى دخلت العربية.
إن عملية المثاقفة هذه التي بدأت مع الفتح الإسلامي لإيران واستمرت عبر العصور بأشكال مختلفة وصور متنوعة كان من أبرزها حركة الترجمة، التي بدأها عبد الله بن المقفع بترجمة كتاب "كليلة ودمنة" إلى اللغة العربية عن اللغة الفارسية البهلوية، وما زالت الترجمة بين العربية والفارسية منذ ذلك اليوم وحتى أيامنا هذه مستمرة ولم تنقطع في عصر من العصور، ولذلك فإن هنالك مئات بل آلاف الكتب التي ترجمت من الفارسية إلى العربية وبالعكس، ومن هنا فإننا ندرك الدور الكبير والمهمة العظيمة التي تقوم بها الترجمة في عملية المثاقفة العربية الفارسية أو في أي لغة أخرى، ومن أجل التأكيد على أصالة الثقافة والتراث الحضاري الفارسي ودور الفرس في الحضارة الإسلامية فإن ثمة جهوداً بذلت في إطار دراسة انجازات العرب والفرس في خدمة الإسلام، وفي هذا المضمار يمكننا الإشارة إلى كتاب "الخدمات المتبادلة بين الإسلام وإيران" لمرتضى مطهري الذي ترجم إلى اللغة العربية.
إن المسألة الأخرى التي يجب الإشارة إليها ضمن الحديث عن المثاقفة العربية الفارسية هي دراسات الأدب المقارن التي جرت بين العربية والفارسية منذ العصور القديمة وحتى يومنا الحاضر؛ ففي المجال اللغوي أعد الجواليقي كتابه المعروف "المعرب" كما دون الخفاجي كتاب " شفاء الغليل" وصنف أدي شير كتاب " الألفاظ الفارسية المعربة" وفي مجال الأدب كتبت عشرات الدراسات والمقالات والكتب التي بحثت في مجال التأثر والتأثير في كل من الفارسية والعربية كتلك الدراسات التي تناولت المتنبي وسعدي، وأبا العلاء المعري والخيام، وأبا نواس والرودكي، وأبا فراس الحمداني و مسعود سعد سلمان، ونيما يوشيج وبدر شاكر السياب وأدونيس وأحمد شاملو، والخيام وعرار شاعر الأردن المعروف، وليلى والمجنون، والمقامات، والخمريات وغيرها من الدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه التي كتبت في أقسام اللغة الفارسية في العالم العربي وأقسام اللغة العربية في الجامعات الإيرانية.

خلاصة الكتاب

اشتمل كتاب "معاداة العرب في الأدب الإيراني المعاصر" على خمسة فصول هي: مدخل الكتاب، وآثار الرجال؛ نظرة الرجال، وآثار النساء؛ نظرة النساء، والرجل المعتدل، والخلاصة والنتيجة، فقد وسمت الباحثة والمستشرقة الأمريكية الفصل الأول من دراستها ب "المدخل" الذي جاء تمهيداً لموضوع الكتاب ومدخلاً للدراسة وهي الأطروحة التي ناقشتها المؤلفة عام 1996م في جامعة تكساس وحصلت بموجبها على درجة الدكتوراه، وجاء هذا الفصل مشتملاً على العناوين التالية: دور الأدب في تعزيز النزعة القومية الحديثة، وإيران بلد متعدد الأعراق والقوميات، والنزعة القومية الإيرانية في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين، ومبحث العربي والإيراني.
عملت المؤلفة على توضيح جذور ظاهرة معاداة العرب في الأدب الفارسي المعاصر ونشأتها، والتطورات التي وصلت إليها في القرن الماضي في مدخل الكتاب؛ إذ بلغت هذه الظاهرة أوجها في عهد الأسرة البهلوية (1925-1979) التي عملت على ترسيخ الاتجاه القومي لدى الإيرانيين وتغذيته بكل أشكال الدعم المادية والمعنوية منها؛ تعزيزاً لمكانتها ودعماً لسياستها والاستراتيجية التي كان تنتهجها والتي تتلخص في محاولة جمع الإيرانيين من مختلف القوميات والعرقيات: الفرس والأتراك والأكراد والعرب والتركمان واللر والبلوج و... وتوحيد كلمتهم على فكرة واحدة إلا وهي القضية القومية، وكما نعرف فإن هذا وتر حساس لدى الإيرانيين، ومن هنا فقد أغدقت الأسرة البهلوية الأموال على الكتاب الذين ساروا في ركبها وارتضوا المنهج الذي خطته لهم، وفي هذا الإطار ظهرت أعمال قصصية وروائية ومقالات ودراسات وكتب سارت في هذا الاتجاه، ومن أجل التأكيد على القضية القومية وتشكيل الهوية الإيرانية عمل الكتاب على مدح العرق الآري والإعلاء من شأنه، في حين عملوا على ذم العرق السامي والحط من شأنه وتصويره بأبشع الصور وأكثرها اشمئزازاً.
خصصت الباحثة الفصل الثاني من دراستها للكتاب الرجال وموقفهم من العرب، فتناولت بالبحث والدراسة والتحليل صورة العرب عند أشهر الأدباء الإيرانيين في القرن الماضي، فعرضت لكل من : محمد علي جمال زاده (1891-1997م) الذي يعد مؤسس القصة القصيرة في الأدب الفارسي المعاصر، وصادق هدايت (1902-1951م) أشهر الأدباء الإيرانيين في القرن العشرين وأشدهم معاداة وكرهاً للعرب، وصادق جوبك (1915-1998م) ومهدي أخوان ثالث (1927-1990) ونادر نادربور (1928-2000م) الذي عقد مقايسة بين انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 والفتح الإسلامي لإيران وسقوط الإمبراطورية الساسانية وخلص إلى نتيجة مفادها أن انتصار الثورة انتصار للعرب؟!
جاءت صورة العرب عند هؤلاء الكتاب مشوهة ممسوخة؛ إذ إن صادق هدايت مشمئز من العرب والإسلام لأنه دين أجنبي، ووصف العرب بأقبح الصور وأكثرها بشاعة وتنفيراً، في حين أنه عرف مرحلة ما قبل الإسلام والزرادشتية على أنها العصر الذهبي لإيران، ومن وجهة نظره فإن الهوية الثقافية الحقيقية لإيران مرتبطة مع الهند "الآرية"، وقد اندثرت هذه الهوية الثقافية عن طريق العرب المسلمين الغزاة، وهؤلاء العرب الهمجيون ذوو الثقافة المتعطشة للدم هم الذين فرضوا دينهم مكان الحضارة الإيرانية، أما صادق جوبك فيؤيد الفكرة المضادة للسامية، ويشاطر مهدي أخوان ثالث صادق هدايت رأيه بأن العرب المسلمين الغزاة مقصرون في القضاء على الهوية الثقافية الحقيقية لإيران، ويأمل بعودة الثقافة والعظمة الزرادشتية التي كانت سائدة قبل الإسلام، ويتبنى أخوان ثالث موقفاً متشدداً مقابل التأثيرات السامية والعربية والإسلامية"، كما أنه يؤيد صادق هدايت في فكرة العرق الآري الأفضل من العرق السامي الوضيع.
أما نادر بور فيضع العرب والإسلام في مواجهة القيم والثقافة الإيرانية الحقيقية ويدينهما، فهو يقدم العرب على أنهم ذوو بشرة سوداء ومتوحشون وغير إنسانيين ومرتبطون بالصور الدموية، ويضعهم مقابل الشخصية الإيرانية الصانعة للحضارة الفارسية المضيئة والمرتبطة بنار زرادشت والشمس والنيروز.
يرفض نادر بور الإسلام لأنه دين عربي، ومن ثم فإنه ظالم ومتخلف ويعقد موازنة بين تأسيس الجمهورية الإسلامية وفتح العرب لإيران في مواطن كثيرة من آثاره، فهو يعتقد بأن تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران استمرار للهزيمة الثقافية الإيرانية مقابل جهل العرب، وفي النهاية يمكن القول إن لدى نادر بور نظرة معادية للعرب والإسلام مثل صادق هدايت وصادق جوبك ومهدي أخوان ثالث.
تناولت الباحثة في الفصل الثالث من كتابها الذي خصصته للعنصر النسائي موقف الأديبات الإيرانيات من العرب، فعرضت صورة العرب عند كل من الشاعرة فروغ فرخ زاد (1933-1966م) والشاعرة طاهرة صفار زاده(1936-2008)، والروائية المشهورة سيمين دانشفر (1921- ) زوجة الأديب الإيراني المعروف جلال آل احمد، والتي ما زالت ترفد الحركة الأدبية بآثار رائعة، والعجيب في الأمر أن موقف النساء من العرب جاء مناقضاً ومعاكساً لموقف الرجال؟ إذ إن فروغ فرخ زاد لم تعمل على تناول قضية العربي والإيراني في أشعارها؛ لأن هذه قضية تاريخية سياسية تخص الرجال، وقد نأت بنفسها عن الخوض في هذه المسألة، بل إن هنالك تصاوير إيجابية عن الإسلام تشاهد في آثارها، ولعل السر في ذلك يكمن في أن العنصر النسائي غير مشغول بالقضية القومية والهوية الإيرانية، التي أرقت الأدباء الإيرانيين وجعلتهم مسكونين بالهم القومي والإعلاء من شأن العرق الآري.
إن طاهرة صفار زاده مسلمة مؤمنة، إلاّ أن الإسلام في نظرتها ظاهرة عالمية وليست للعرب فقط، ومن الملاحظ أننا لا نجد في تصاوير طاهرة صفار زاده العرب الغرباء، بل إن العرب الذين يظهرون في أشعارها أناس مظلومون وتخاطبهم على أنهم أخوة، كما أن الملاحظة الهامة في آثار هذه الأدبية تعود إلى نظرتها التاريخية التي ابتعدت عن نظرة صادق هدايت وصادق جوبك وأخوان ثالث ونادر بور بشكل جذري، فقد صورت العرب في "سفر سلمان" على أنهم دعاة الحق وحرية الإسلام والذين كان الإيرانيون في انتظارهم، وليس هنالك شيء في آثارها عن الحرب وسفك الدماء وفتح إيران.
قدّمت طاهرة صفار زاده سلمان الفارسي على أنه أنموذج ومثال للمسلمين الفرس، كما كان بلال أنموذجأ للأفارقة وصهيب أنموذجأً للأوروبيين، فهؤلاء أصحاب الرسول الذين لا تعني جنسياتهم أي أهمية، إلاّ عندما تصبح الخصوصية العالمية للإسلام عميقة فقط.
جاء تعريف سيمين دانشفر للقومية الإيرانية مختلفاً عن الآخرين، ولذلك كان تعاملها مع العرب مختلفاً أيضاً، إذ إن هذه الأدبية مطلعة على وجود الاختلافات العرقية في إيران، وترى أن الوحدة بين هذه القوميات تكمن في الأساطير والمذهب المشترك، إذ إن الأساطير الإيرانية ترتبط مع الأساطير الإسلامية في نظرتها، ومن خلال هذا التركيب تكونت الثقافة الإيرانية المشتركة، وتعد سيمين دانشفر الخصوصيات العربية الإسلامية في الثقافة الإيرانية، إيرانية؛ إذ إنها تتناول هذا المضمون بشكل جميل في رواية "سووشون" كما عرض في قصة "الفارسية سكر" و" كيد الخائنين" لجمال زاده، والفرس والأتراك وعرب إيران موجودون في آثار سيمين دانشفر، إلاّ أن العرب ليسوا غرباء، فالعرب في رواية "سووشون" عرب فقط.
اختص الفصل الرابع من هذا الكتاب بالأديب الإيراني المشهور جلال آل أحمد (1923-1969) ، ولذلك خصته الباحثة بهذا الفصل الموسوم بـ "الرجل المعتدل"؛ فقد جاءت نظرته معتدلة في الدفاع عن القومية الإيرانية والإسلام حسب وجهة نظر المؤلفة.
إن جلال آل احمد لا يقبل إلايديولوجية الآرية والنظرة التاريخية التي نشأت عنها، ولا يعمل على مدح الإمبراطورية الساسانية على أنها العصر الذهبي في التاريخ الإيراني، ويعرف الإسلام على أنه دين إيراني في الأصل ومرتبط بإيران باسم سلمان الفارسي، إذ إنه يعد الانتشار الإسلامي الأولي مديناً لسلمان الفارسي، ويقول بوجود مشتركات بين الإسلام ومزدك وماني، ويعتقد بأن الإسلام الحقيقي ظهر مع الوصول إلى إيران.
لقد أدى ميل جلال آل احمد إلى كل شيء إيراني وانزعاجه من كل شيء عربي إلى أن يطرح "تأرين" الإسلام وجعله إيرانياً، ويعرف هذا الأديب الشيعة على أنها بؤرة القومية الإيرانية، ويضع الإسلام مقابل الإمبريالية والمادية الغربية من أجل الدفاع عن الثقافة الإيرانية ، إلا أن المدقق في هذا الكتاب يجد أن موقف جلال آل أحمد لا يختلف كثيرا عن موقف الأدباء الإيرانيين الآخرين، ولذلك فإن المؤلفة لم تكن موفقة في اختيارها لهذا العنوان ؛ إذ إن وجهة نظر جلال آل أحمد – كما ظهرت في النصوص التي قدمتها المؤلفة نفسها – أظهرت بشكل لا مراء فيه أن مواقف هذا المؤلف من العرب بعيدة عن الاعتدال ومراعاة الانصاف ، ولذلك كان الأجدر بالمؤلفة أن تختار عنواناً آخر للفصل الرابع من كتابها .
أما الفصل الخامس من هذا الكتاب فقد وسمته المؤلفة بالخلاصة والنتيجة، وهو الفصل الذي قدمت فيه الباحثة خلاصة بحثها والنتائج التي توصلت إليها في هذه الدراسة(10).

إضاءات

لعلني لا أفشي سراً للقارئ العربي إذا قلت: إن الهاجس الذي كان يراودني مراراً في ترجمة هذا الكتاب إلى العربية هو موضوع الإحجام والتردد في ترجمة مثل هذا الكتاب؛ فقد مضت سنوات منذ أن وقعت عيناي على هذا الكتاب في طهران سنة 2003م، وكنت حينها أقيم في طهران ومشغولاً بكتابة أطروحتي للدكتوراة التي جاء عنوانها: " الخيام في الأدب الأردني المعاصر، اعتماداً على آثار الشاعر الأردني الكبير عرار" قرأت الكتاب حينها فاستفدت منه كثيراً، واستكملت الصورة التي كانت تشغلني منذ وصولي إلى إيران عام 1997 وإطلاعي على الأدب الفارسي وصورة العرب في هذا الأدب، وتجاذبت مع بعض الزملاء العرب والإيرانيين إثر قراءة هذا الكتاب أطراف الحديث حول هذه الظاهرة، التي أثارت بعض النقاشات والحوارات حول الصورة القاتمة للعرب في الأدب الفارسي بشكل عام، وفي الأدب الفارسي المعاصر بشكل خاص.
عدت إلى الأردن في صيف عام 2004م والتحقت بقسم اللغات السامية والشرقية في جامعة اليرموك أستاذاً مساعداً ومدرساً للغة الفارسية وآدابها؛ وفاءً لهذه الجامعة التي ابتعثتني إلى جامعة طهران للحصول على شهادة الدكتوراة في اللغة الفارسية وآدابها، وفي هذه الفترة كنت مشغولاً بالتفكير بترجمة بعض المقالات والكتب عن الفارسية، فوقع الاختيار على ترجمة بعض المقالات والكتب منها:
أولاً: مقالة مؤامرة لتغيير اللغة الفارسية التي نشرتها مجلة الدراسات الأدبية اللبنانية(11).
ثانياً: نيما يوشيج رائد الشعر الفارسي الحديث التي نشرتها مجلة فصلية إيران والعرب(12).
ثالثاً: كتاب الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا للأستاذ الدكتورمحمد رضا شفيعي كدكني الذي ترجمته إلى العربية (13)، والذي نشرته مجلة عالم المعرفة في عددها 368 / 2009م.
رابعاً: كتاب مراحل الشعر الفارسي منذ الحركة الدستورية وحتى سقوط الملكية للأستاذ الدكتور محمد رضا شفيعي كدكني.
خامساً: كتاب معاداة العرب في الأدب الإيراني المعاصر للباحثة والمستشرقة الأمريكية جويا بلوندل سعد الذي هو موضوع هذه الدراسة.
أقول: بعد شيء من التردد في ترجمة هذا الكتاب عقدت العزم على ترجمته وتقديمه للقارئ العربي على شكل مقالات، قبل أن يصار إلى نشره على شكل كتاب، ولعل بيت الشعر العربي المشهور:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
قد أثر فيّ وكان حافزاً ضمن مجموعة من الحوافز دعتني إلى ترجمة هذا الكتاب، ووضعه في متناول أبناء العربية حتى يكونوا على إطلاع على ما جاء في الأدب الفارسي المعاصر من تشويه وإساءة لصورة العرب.
حقيقة كانت هذه الفكرة تخالجني وهي أن هذا الموضوع وهذه الظاهرة قد يثيران الكثير من النقاش؛ خاصة في الوقت الحالي الذي اختلطت فيه الكثير من القضايا؛ فقد نجد أحدهم يقول:
إننا نعيش الآن في زمن رديء جداً، وليس من المناسب الخوض في أمور تحرك الكوامن وتثير الحساسيات التي نحن في غنى عنها، ويكفينا أن أمثالها كثير، أقول رداً على ذلك: إن هنالك كثيرأً من القضايا التي عانت منها أمتنا العربية، ومازالت تتجرع العلقم من جرائها فهل نسكت عنها؟ ومتى كان وضع الأمة والظروف المحيطة بها في حالة أفضل؟ وإذا كنا نعيش في زمن رديء فهل يعني هذا السكوت والتزام الصمت حيال قضية بقيت لعشرات السنين مغيبة عن أنظار النخبة الثقافية وكل أبناء العربية؟ أو ليس من حق أبناء الضاد الذين يزيد عددهم على ثلاثمائة مليون نسمة الاطلاع على هذه الظاهرة التي يندى لها الجبين، والتي تجعل كل مثقف وصاحب فكر يتصبب عرقاً!.

النزعة القومية والأسرة البهلوية

إذا كنا نتحدث عن ظاهرة معاداة العرب في الأدب الفارسي المعاصر فيجب علينا أن نضع هذه القضية الاستفزازية في إطارها التاريخي؛ فقد بلغت النزعة القومية الإيرانية أوجها زمن الشاه محمد رضا البهلوي عندما تعاظم الشعور بالنزعة القومية التي وقعت تحت تأثير النزعة القومية الغربية ولا سيما النازية الألمانية؛ إذ عمل شاه إيران على تغذية الحركة القومية الإيرانية ودعمها بكل أشكال الدعم المادية والمعنوية، ولذلك كانت النزعة القومية التي روج لها النظام الحاكم إحدى الركائز التي انتهجها شاه إيران في استراتجيات حكمه، ومما يؤسف له حقاً أن بعض الأدباء والمثقفين الإيرانيين قد أغرتهم سياسة الشاه والأموال التي كان يغدقها على من يصغي لأوامره ويبث أفكاره المسمومة، فوقعوا تحت تأثير أفكار الشاه ودعواته إلى تمتين النزعة القومية الإيرانية وتغليب العرق الفارسي على غيره من العرقيات والأقليات الأخرى، لكل هذا عمل هؤلاء الأدباء والمثقفون – تلبية لسياسية الشاه ورغباته- على كتابة آثار أدبية مثلت هذا الاتجاه القومي القائم على مدح العرق الآري الفارسي والطعن في العرق السامي العربي، وكان من ضمن هذه الآثار الرواية والقصة والمسرحية والأشعار الكلاسيكية والحديثة، بالإضافة إلى بعض المقالات والدراسات والكتب الأخرى التي عمدت إلى بث سمومها وتصوير العرب بأبشع الصور وأكثرها تعسفاً واشمئزازاً واستفزازاً، وبناء على هذا فإن النتيجة الواضحة التي يمكن أن يستخلصها المتعمق في هذه المسألة هي أن جذور ظاهرة معاداة العرب في الأدب الفارسي المعاصر كانت قضية سياسية قبل أن تكون قضية ثقافية وتنعكس بهذه الصورة في الأدب الفارسي المعاصر.
أما القضية الأخرى التي يجب توضيحها في إطار بحثنا ودراستنا لظاهرة معاداة العرب في الأدب الفارسي المعاصر فهي أن الأمانة العلمية والدقة في بحث هذه الظاهرة تفرض علينا أن أن نكون موضوعيين، وأن لا ننجرف وراء العواطف والمشاعر التي تثيرها هذه المسألة، ولذلك أسجل هنا هذا الاعتراف وهو أن معاداة العرب ليست مطروحة من قبل كل المثقفين والأدباء والكتاب الإيرانيين؛ إذ إن نظرة النخبة الثقافية الإيرانية ومن ثم الإيرانيين بشكل عام ليست واحدة للعرب، وبناء على ذلك فإن ما جاء في كتاب الباحثة والمستشرقة الأمريكية لا يمثل كل الأدباء والمثقفين الإيرانيين؛ إذ إن هنالك بعض المثقفين والأساتذة الإيرانيين الذين ينظرون إلى العرب نظرة معتدلة بغض النظر عن ولاءاتهم واتجاهاتهم الإيديولوجية، بيد أن صوت هؤلاء يبقى صوتاً خافتاً مقابل الغالبية العظمى من النخبة الثقافية الإيرانية المصابة بداء النزعة القومية، والجدير بالذكر هنا أن النزعة القومية ما زالت تتجلى لدى كافة الأحزاب والاتجاهات السياسية الإيرانية: اليسارية والإسلامية والقومية بصور مختلفة، ولكن ليست بالزخم نفسه الذي كانت عليه في عهد الأسرة البهلوية.
على أي حال لقد برزت ظاهرة معاداة العرب في الأدب الفارسي المعاصر عند أغلب الكتاب والأدباء والمثقفين الإيرانيين وليس جمعيهم، وهذا ما لمسته عن قرب في السنوات السبعة التي قيض لي الإقامة فيها في طهران للحصول على شهادة الماجستير والدكتوراه في اللغة الفارسية وآدبها (1997-2004) وهذا ما أشار إليه السيد يوسف عزيزي بني طرف أحد مثقفي العرب الإيرانيين المقيم في طهران وعضو رابطة الكتاب الإيرانيين، والذي تربطه علاقات واسعة مع المثقفين الإيرانيين من خلال هذه الرابطة، أما الملاحظة الأخرى التي يجب توضيحها فهي أن معاداة العرب في الأدب الفارسي بعد مرحلة الثورة الإسلامية قد خفت حدتها وتراجعت عما كانت عليه قبل عام 1979م، غير أن ترسباتها ومظاهرها بقيت موجودة في الثقافة الفارسية ولدى الإيرانيين بشكل عام، ولعل الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، وتركت آثارها المؤلمة في أغلب الأسر الإيرانية قد ساهمت في استمرار صورة العرب المشوهة لدى الإيرانيين في مرحلة ما بعد الثورة الإسلامية.
إن هذه النزعة القومية التي بلغت أشدها زمن الشاه محمد رضا البهلوي لا تعني بطبيعة الحال أنها لم تكن موجودة لدى الفرس منذ مرحلة ما قبل الإسلام، فإذا ما استحضرنا في أذهاننا تاريخ إيران والإمبراطوريات الفارسية، وسلسلة الدول والحكام التي سيطرت على إيران منذ قدوم الماديين واستقرارهم في إيران، مروراً بالإخمينيين والإشكانيين وانتهاء بالساسانيين نجد أن الدولة الإيرانية كانت دولة قومية منذ ظهورها، وعندما سقطت الإمبراطورية الساسانية على يد العرب المسلمين، وتم فتح إيران بشكل رسمي في معركة نهاوند التي تسمى فتح الفتوح سنة 21 للهجرة، برزت النزعة القومية لدى الإيرانيين إثر سقوط هذه الدولة وبداية مرحلة جديدة من تاريخ إيران وثقافتها ولغتها، وكان من الطبيعي أن تظهر ردود فعل متباينة إثر الفتح الإسلامي، ومن ضمنها تعاظم الشعور بالماضي الجميل والنزعة القومية والمشاعر المضادة للعرب لدى بعض الإيرانيين، ولا سيما ذوي النزعات القومية الذين لم يستطيعوا قبول الإسلام، والتكيف مع الدين الإسلامي والمرحلة الجديدة، فقاموا ببعض حركات العصيان والتمرد على الفتح الإسلامي، ومن ضمنها حركة مختار الثقفي وبابك الخرمي وأبو مسلم الخراساني وغيرها.
لعل من المناسب أن أشير هنا إلى أن الإسلام لم يستطع التغلغل في أعماق الشخصية الإيرانية المصابة بالنزعة القومية، ومن هنا فقد رأى الإيرانيون أن الدين الإسلامي الذي نزل في الجزيرة العربية يتناسب مع طبيعة الشخصية العربية، ولا يتناسب مع الشخصية الإيرانية، ولذلك عملوا على إيجاد مذهب يتناسب معهم فكان المذهب الشيعي الذي جاء ملبياً لحاجاتهم وفهمهم للدين، ولعل السبب في عدم تغلغل الإسلام في أعماق الشخصية الإيرانية يعود إلى طبيعة المذهب وما فيه من تقية ومراءة وخرافات، فبقى سطحياً لدى الشخصية الإيرانية التي تعاني ما تعانيه من الازدواجية في الشخصية ومحاولة التأقلم مع المستجدات، وإذا كانت الشخصية الإيرانية لم تستطع الخلاص من الأرث القومي والاعتقادات الدينية الزرادشتية التي كانت جميعها مدعاة لقلق هذه الشخصية واضطرابها، فإنها لم تستطع الخلاص من عقدة العرب الذين هزموا الإمبراطورية الفارسية وانتصروا عليها، ولاشك أن هذه العقدة ظلت خامدة في الشخصية الإيرانية فترة من الوقت، ومن ثم ظهرت بأشكال مختلفة كان من بينها العنصرية المتطرفة التي حاولت التأصيل للهوية الإيرانية من خلال إلغاء الأخر وتشويه صورته في الأذهان.
الترجمة عن الفارسية
حقيقة منذ أن تناهى إلى مسامعي ترجمة هذا الكتاب إلى العربية عن اللغة الإنجليزية أواخر عام 2007م توقفت مليا عند هذه القضية: هل أستمر في الترجمة عن الفارسية؟ أم أتوقف وأحجم عن ذلك؟ و ما دام أن الكتاب قد ترجم إلى العربية، فما هي الفائدة من الاستمرار في الترجمة عن اللغة الفارسية الوسيطة؟
لعلني لا أفشي سراً إذا قلت إن هنالك أفكاراً كثيرة كانت تخالجني قبل الولوج إلى ترجمة كتاب " معاداة العرب في الأدب الإيراني المعاصر" ولعل من أبرزها ترجمة الكتاب عن اللغة الفارسية؟ وهذا السؤال الكبير ألح علي قبل اتخاذ القرار بالترجمة، إلا أن النتيجة جاءت مثمرة فقد أغنت الملاحظات العميقة والتعليقات القيمة التي كتبها السيد ناصر بور بيرار أثناء تصحيحه ومراجعته للترجمة الدراسة وأضاءت الكثير من القضايا التي كانت بحاجة للتوضيح، كما كانت هذه الملاحظات والتعليقات من بين العوامل التي قوت من عزمي على الإقدام على هذه الترجمة فبدأت بالمقالات الثلاثة التي أشرت إليها آنفاً، حقاً لقد شكلت ملاحظات السيد ناصر بور بيرار في نهاية الأمر تلاقحاً ثقافياً بين الانجليزية والفارسية، إذ تلاقت أفكار السيدة جويا بلوندل سعد مع أفكار السيد ناصر بور بيرار في كثير من المواطن، وكأنها كانت المعبر عما يجول في ذهن هذا المفكر الإيراني، وغيره من المنصفين المعتدلين من بين المثقفين الإيرانيين.
إن السيد ناصر بور بيرار الذي يمتلك دار نشر في طهران والذي نشر هذا الكتاب أضحى من الشخصيات المعروفة في إيران، إثر نشره سلسلة من الكتب تحت عنوان " اثنا عشر قرناً من الصمت" انتصر فيها للعرب في الكثير من المسائل ودرس الكثير من القضايا والمسائل الأدبية، كما رد المغالطات الفاحشة التي جاءت في كتاب " قرنان من الصمت" لمؤلفه الدكتور عبد الحسين زرين كوب، والمقصود بـ " قرنان من الصمت" أي القرنين اللذين تليا الفتح الإسلامي لإيران ودخول العرب المسلمين إلى إيران، إثر هزيمة الإمبراطورية الساسانية في معركة نهاوند؛ إذ التزم الإيرانيون الصمت إثر الفتح الإسلامي وكأنهم لم يستوعبوا التغييرات الجديدة، ولم يستيقظوا من سباتهم إلا بعد مرور قرنين من الزمان تقريباً، فكأن الفتح الإسلامي شكل صدمة لهم، ولم يكونوا قادرين على فهم هذه الصدمة واستيعابها، والمقصود بـ " اثنا عشر قرناً من الصمت" أي اثني عشر قرناً من المغالطات التي نشرها الدكتور عبد الحسين زرين كوب في كتابه "قرنان من الصمت" وبقيت دون إجابة إلى أن جاء هذا المثقف الذي قل نظيره من بين الإيرانيين وانتصر للعرب بعد مرور اثني عشر قرناً.
على أي حال، أثارت هذه السلسلة من الكتب ردود فعل مختلفة في إيران حتى أن صاحبها هدد بالقتل، ولو ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية لأحدث منعطفاً تاريخياً في فهمنا للكثير من المسائل التاريخية والأدبية، وهو قمين بالترجمة ويستحق البحث والدراسة والتحليل، ومما يجدر ذكره هنا أن الدكتور عبد الحسين زرين كوب وهو أستاذ جامعي وناقد مشهور له عشرات الكتب كان طيلة حياته (1922-1999) من أبرز الشخصيات الإيرانية التي روجت لقضية معاداة العرب، حتى أن أغلب كتبه لا تكاد تخلو من هذه الظاهرة، إلا أن صاحبة الكتاب غفلت عن هذا المؤلف و لم تشر إليه في كتابها.
ما دمنا نتحدث عن تلاقي الأفكار وتلاقحها وصقلها ودور الترجمة في هذه المثاقفة والتلاقح ربما يخطر ببال البعض السؤال التالي: إن هذا الكتاب كتب باللغة الانجليزية وهاهو يترجم إلى اللغة العربية عن طريق لغة ثالثة هي الفارسية فلماذا هذا الصنيع؟ أليس الأجدر أن تتم الترجمة مباشرة عن اللغة الانجليزية دون الحاجة إلى لغة وسيطة؟ خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار مقولة الإيطاليين المشهورة: " الترجمة خيانة" و " المترجم خائن" فلماذا يقدم المترجم الحالي على الترجمة عن اللغة الفارسية إذن؟
أشرت إلى أن هذا الموضوع كان يشغلني قبل العزم على البدء بترجمة هذا الكتاب، إلا أنه تبين لي بعد التأمل والتدبر في هذه الدراسة، وبعد أن جربت حظي في الترجمة من الفارسية إلى العربية وبالعكس في بعض المقالات والكتب ككتاب دليل السياحة والسفر إلى إيران الذي ترجمته مع الزميل الدكتور محمد الزغول وطبعته وزارة الثقافة الإيرانية ووزع في كل الدول العربية مجاناً، أن ترجمة الكتاب عن الفارسية هي الأولى والأجدر، وذلك لجملة من الأسباب من أبرزها:
أولاً: إن موضوع هذا الكتاب يتمحور حول صورة العرب في الأدب الفارسي، ومن ثم فإنه يتعلق باللغة الفارسية ومن صميمها، وقد قام بالترجمة الفارسية أحد أبنائها المطلعين على خباياها والضليعين بها.
ثانياً: إن المترجمة قد أعادت النصوص الفارسية إلى لغتها الأم الفارسية؛ أي النصوص الفارسية التي تبحث في موضوع صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر، وترجمة هذه النصوص -وهي محور الدراسة التي اعتمدتها المؤلفة في كتابها- إلى العربية مباشرة عن الفارسية وليس عن طريق لغة ثالثة هي الأولى والأجدر، إذ إن ترجمة هذه النصوص وهي كثيرة عن الانجليزية تعد مأخذاً، ومن ثم يتم التساؤل عن أمانة الباحثة ودقتها وصحة الترجمة وصدقها.
ثالثاً: لقد راجع الترجمة وعلق عليها وهذبها وصححها أحد المثقفين الإيرانيين، وهذه شهادة أخرى على صحة هذه النصوص من جهة، وعلى صحة وجهة نظر المؤلفة وآرائها، من جهة أخرى، وهذا ما عزز الترجمة الفارسية وفرض احترامها وجعلني أفضلها على الأصل الانجليزي.
رابعاً: إن كون مترجمة الكتاب إلى الفارسية والمصحح إيرانيين يعد مكسباً وثقلاً يحسب لصالح الترجمة، وهذا يعني ضمنياً موافقتهما على ما جاء في هذا الكتاب، ويؤكد أمانة المؤلفة ومصداقيتها، فلو كانت المؤلفة مجحفة ومجانبة للصواب في كتابها لردت المترجمة والمصحح عليها بالكثير من الملاحظات، ولما وافقا على الإقدام على ترجمة هذا الكتاب ونشره في طهران؛ بيد أن المصحح وهو أحد المثقفين الإيرانيين وصاحب السلسلة المشهورة " اثنا عشر قرناً من الصمت" قدم ملاحظات غنية ومؤيدة للمؤلفة.
خامساً: إن صدور الكتاب المترجم إلى اللغة الفارسية في طهران يعد ميزة أخرى لهذه الترجمة؛ أي أن هذا الكتاب لا بد أن يكون قد أخذ أذن النشر من وزارة الثقافة الإيرانية، وهذا بحد ذاته يعني الموافقة على ما جاء في الكتاب ضمنياً، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذا الكتاب نشر عام 2003 زمن حكومة السيد محمد خاتمي الإصلاحية، ولو تأخرت هذه الترجمة إلى عهد السيد محمود أحمدي نجاد وحكومته المتشددة لما رأت النور.
سادساً: إن الكتاب موجود في الأسواق الإيرانية؛ فقد طبع في طهران ووزع في مختلف المدن الإيرانية، ولاقى رواجاً وإقبالاً خاصة بين عرب الأهواز الإيرانيين الذين يزيد عددهم على خمسة ملايين نسمة وبين العرب المقيمين في إيران، ومن ثم فإن مجرد نشر الكتاب في العاصمة الإيرانية لا يترك لأحد فرصة الاعتراض على الترجمة أو التشكيك بها، فما دام أن الكتاب نشر في طهران فلا يمكن لأحد أن يتهم الآخرين (المترجمين العرب) بتهم الإساءة والخوض في أمور تحرك الكوامن وتثير الحساسيات.
سابعاً: إن السيد صخر الحاج حسين الذي أقدم على ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية عن الانجليزية غير مطلع على اللغة الفارسية وآدابها وغير متخصص فيها، كما بدا ذلك واضحاً في الأخطاء التي جاءت في الترجمة، خاصة في أسماء الأدباء الإيرانيين موضع الدراسة؛ فقد كتب اسم أخوان ثالث كما يلفظ في الفارسية "ساليس" وكتب اسم الأديبة الإيرانية المشهورة سيمين دانشفر هكذا سيمين دانش فار، والجدير بالذكر أن هذه الترجمة تحتاج الى دراسة معمقة تقف على الكثير من الهفوات التي يجب تصحيحها.
ثامناً: إن صاحب هذه المقالة متخصص باللغة الفارسية وآدابها، وقد قدر له الإقامة في طهران سبع سنوات، كما جرب حظه في الترجمة عن الفارسية وإليها، وبناء على هذا فإنه متخصص باللغة الفارسية وآدابها ويعرف إيران معرفة تؤهله للخوض في مثل هذه المسائل، ومن ثم الإقدام على ترجمة الكتاب المذكور وغيره من كتب الأدب الفارسي الأخرى.
تاسعاً: إن كل هذه العوامل مجتمعة شكلت نقاط قوة وقوت من عزيمتي على ترجمة هذا الكتاب ووضعه في متناول أبناء الضاد والناطقين بهذه اللغة الغنية حتى يطلعوا على صورتهم في الأدب الفارسي المعاصر؛ فقد مضت سنوات طويلة وأبناء العربية بشكل عام والنخبة الثقافية بشكل خاص يجهلون ما يدور في الأدب الفارسي المعاصر عنهم، ولذلك فإن من حقهم الاطلاع على هذه الصورة وما كتب حولهم في الأدب الفارسي مهما كانت هذه الصورة، وما من أحد يضطلع بهذه المهمة الشاقة إلاّ المتخصصون باللغة الفارسية وآدابها.
على أي حال لقد أخذ كتاب " معاداة العرب في الأدب الإيراني المعاصر" على عاتقه القيام بمهمة شاقة؛ فقد كان لهذا الكتاب ميزة خاصة، من حيث كونه ملأ الفراغ في موضوع لم يسبق بحثه فهو موضوع خصب وبكر، وحسب علمي لم يلتفت إليه أحد من الإيرانيين أو من العرب، ولذلك فقد وفقت الباحثة والمستشرقة الأمريكية في اختيارها لهذا الموضع وفي كيفية تنظيمها وعرضها للدراسة، إذ بات من المعروف عن المستشرقين أنهم يتحرون الدقة في أبحاثهم ودراساتهم وغالباً ما تتصف أعمالهم بالاستقصاء والتنظيم حدّ المبالغة.
بحثت المؤلفة صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر من خلال الرجوع إلى النصوص واستخراجها من بطون الكتب الفارسية والمترجمة عن الفارسية إلى اللغة الانجليزية، واستعانت ببعض أبناء اللغة الفارسية المقيمين خارج إيران، وفي نهاية الأمر قدمت دراسة غنية وعميقة، وملأت فراغاً كان موجوداً في المكتبة الانجليزية، ومن ثم المكتبات الأخرى التي ترجم إليها هذا الكتاب (الفارسية والعربية) أو التي سوف يترجم إليها، لقد شكل هذا الكتاب في إطار الترجمة والمثاقفة ظاهرة تستحق البحث والدراسة والتحليل؛ فقد ألف هذا الكتاب الذي عزّ نظيره بالانجليزية وترجم إلى الفارسية وها هو يترجم إلى اللغة العربية وربما إلى لغات أخرى، ومن خلال هذا المسار الذي سلكه هذا الكتاب نستطيع القول بأنه ساهم في إيجاد حركة واعية حول دور الترجمة والمثاقفة وتلاقح الأفكار وتلاقيها وصقلها من خلال الاطلاع على أفكار الآخرين، والإضافة إليها أو تصحيحها، ومن ثم فإنها ( أي الترجمة) تشكل نطفة جديدة في عالم العولمة وحوار الحضارات وتلاقيها لا تنافرها وتصارعها، ولاشك أن هذا التلاقح والتثاقف أمر قد يخفى على بعض الباحثين والدارسين ولا يتنبهون إليه، أو أنهم قد يمرون عليه مروراً سريعاً دون تريث واكتراث؛ بيد أن المتعمق في هذا الكتاب يجد أنه موضوع ثري وخصب وأنموذج فريد لموضوع الترجمة والمثاقفة.

هواجس واعترافات

لقد ألحّ علي هذا الموضوع وظل يشغلني منذ أن وصلت إلى إيران عام 1997م، وبدأت بتعلم اللغة الفارسية والإطلاع على آدابها؛ فمنذ الشهر الأول لوصولي إلى إيران مع أربعة زملاء لي، شاركنا في رحلة إلى مدينة مشهد التي تبعد عن طهران حوالي ألف كيلو متر، حيث أقمنا عدة أيام في هذه المدينة تعرفنا من خلالها على معالم وآثار كثيرة كان من بينها مقام أبو القاسم الفردوسي وعمر الخيام وفريد الدين العطار، وعندما كنا نتجول في مقام الفردوسي وأروقته همس في أذني أحد الزملاء العرب قائلاً: هذا الفردوسي الذي كتب أبياتاً عن العرب في شاهنامته ذاماً وقادحاً، وأصدقكم القول كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها شيئاً من مثل هذا القبيل، أعني الفردوسي الذي ذم العرب ووصفهم بالغزاة وأكلة الجراد والسحالي، والذين جاءوا حفاة إلى إيران وقضوا على الحضارة الفارسية؛ بيد أن البعض يقول إن هذه الأبيات منسوبة للفردوسي.
أقول في ذلك الوقت لم أكن قد تعلمت الفارسية بعد، إلاّ أنني عندما التحقت ببرنامج الماجستير في جامعة طهران لدراسة اللغة الفارسية وآدابها، بعد أن اجتزت مرحلة تعلم اللغة بدأت أتعرف شيئاً فشيئاً على الأدب الفارسي، وكان الموضوع الذي شدني كثيراً وسبب لي بعض الصداع الكلمة أو التسمية التي يطلقها الإيرانيون على العرب؛ ففي الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون يستعملون كلمة " أعراب" للدلالة على العرب، ظناً منهم أن كلمة " أعراب" جمع "عرب" وكنت أوضح لزملائي وأساتذتي ولغيرهم أن هنالك فرقاً شاسعاً بين الكلمتين، وإن كلمة أعراب جمع أعرابي، في حين أن كلمة عرب هي جمع كلمة عربي ولا داعي لجمعها مرة أخرى، وأن هنالك فرقاً في الدلالة وهو الموضوع الأهم مستشهداً بالآيات الكريمة: "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا...." و "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً..." وكنت أدخل في بعض النقاشات والحوارات ويساء فهمي في بعض الأحيان، وبالإضافة إلى ذلك هنالك كلمة أخرى تطلق على العرب غالباً ما تستعمل في النصوص الأدبية الفارسية وهي "تازيان" ومفردها"تازى" أي الغزاة؛ فكيف يسمون العرب الذين أدخلوا الإسلام إلى إيران وجعلوهم مسلمين بعد أن كانوا زرادشتبين بالغزاة، والعجيب في الأمر أن هنالك إصراراً على استعمال هذه الكلمات في الكتب المدرسية والمناهج التعليمية ووسائل الإعلام كافة، ولعل هذه الإشارات ساهمت في تشكيل بذور صورة العرب في الأدب الفارسي الكلاسيكي والمعاصر في ذهني وحفرتها في ذاكرتي، قبل أن أتعرف على جزئياتها وتفاصيلها في الأدب الفارسي المعاصر في مرحلة لاحقة.
لا شكّ أن مثل هذه الكلمات المتداولة في اللغة الفارسية وآدابها وثقافتها تعبر بطريقة واضحة عن العقل الجمعي للإيرانيين، وما يدور في خلد الأمة وأذهانها، ومن ثم فإنها تساهم في رسم صورة العرب لدى الإيرانيين وتشويهها، وما انعكاسها في الأدب الفارسي في مرحلة لاحقة إلاّ تصوير لما يدور في ذهن الأمة وأفكارها، على أي حال ضمن المناقشات التي كانت تحدث معي ومع أبناء اللغة الفارسية كنت حريصاً على توضيح الصورة لهم، وأن هذه التسمية تثير اشمئزاز العرب وتحرك كوامنهم، مبيناً لهم الحساسية الموجودة في إيران من استعمال كلمة
"العجم" التي كانت مستعملة للدلالة على غير العرب، ومن ضمنهم الفرس الذين لا يحسنون النطق بالعربية وتلفظ حروفها ومخارجها بشكلها الصحيح.
حقاً لقد ظلت هذه الظاهرة فكرة تشغلني وتخالجني وأنا أتلمس مظاهرها ومعالمها في الأدب الفارسي الكلاسيكي والمعاصر؛ فقد شغلتني وأرقتني وسببت لي القلق والاضطراب عندما تعرفت عليها عن قرب وكانت معالمها تتكشف لي شيئاً فشيئاً وبين الحين والآخر، وكنت أجمع الأبيات الشعرية التي تشير إلى موضوع العرب وكان من بينها أبيات الفردوسي وما ذكره ناصر خسرو والخاقاني في آثارهما الشعرية والنثرية، غير أن المفاجأة كانت كبيرة عندما صدمتني المستشرقة والباحثة الأمريكية جويا بلوندل سعد بكتابها موضوع الدراسة، حقيقة لم أكن على إطلاع كامل على صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر- على الرغم من أنني كنت أقيم في طهران- لأسباب كثيرة يكفي أن أذكر منها أن هذه الظاهرة بلغت أوجها في عهد الأسرة البهلوية وأدبائه، وأغلب آثار هؤلاء تم إعادة طباعتها مرة أخرى بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م مع حذف أجزاء مهمة من هذه الآثار بعد أن خضعت للرقابة، كما حدث لرواية البومة العمياء لصادق هدايت وقرنان من الصمت للدكتور عبد الحسين زرين كوب وغيرهما، في حين أن الطبعات القديمة ليست في متناول اليد ولا يمكن الحصول عليها بيسر وسهولة، كما أن بعض الآثار الأخرى اختفى من الأسواق ولم يعد موجوداً البتة كرواية "ديو" أي الغول لبزرك علوي.
إن الموضوع الآخر الذي أثار دهشتي واستغرابي في هذا الكتاب هو السيد ناصر بور بيرار مصحح الكتاب وناشره؛ فقد كتب هذه المثقف الإيراني الأصيل الذي أصدر سلسلة من الكتب ملاحظات وإضاءات جميلة في مواطن كثيرة من الكتاب؛ إذ إن التعليقات والهوامش التي كتبها هذا المثقف الإيراني أغنت الكتاب بملاحظات قيمة وجاءت شهادة قوية من شخصية إيرانية وليست عربية حول هذا الموضوع؛ فقد راعى هذا الرجل جانب الإنصاف والعدالة، وامتلك من الشجاعة والجرأة والشهامة ما جعله يقدم على كتابة هذه الملاحظات التي عاب من خلالها ما جاء لدى حركة التنوير الإيرانية من تشويه لصورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر، وهو الذي هدد بالقتل لما نشره في سلسلة كتبه " اثنا عشر قرناً من الصمت" كما أنه برهن على شجاعته وجرأته مرة أخرى عندما أقدم على نشر هذا الكتاب، فهو أنموذج فريد قل نظيره للمثقفين الإيرانيين؛ في حين أن أغلب المثقفين الإيرانيين وليس جميعهم مصابون بالنزعة القومية والنظرة الاستعلائية كما أشرت آنفاً.
لقد أحسن السيد ناصر بور بيرار صنعاً عندما راجع هذه الترجمة وصححها وكتب عليها تعليقاته وملاحظاته القيمة التي جاءت شهادة ووثيقة تاريخية سجلها للتاريخ حتى تتطلع عليها الأجيال القادمة، ثم قام بنشر هذا الكتاب ليتم توزيعه في طهران وفي كل المحافظات الإيرانية الأخرى، وكأني به يؤسس لفكرة جديدة يضع بذورها في سلسلة كتبه التي تم الإشارة إليها، وفي هذا الكتاب أيضاً ساعياً إلى دحض الصورة التي تكونت في أذهان الإيرانيين، ومحاولاً الإجابة عن العيوب والمآخذ والمثالب وكل الصور المشوهة للعرب، علّه يرد شيئاً من هذه التهم والافتراءات التي ألصقت بالعرب وشوهت صورتهم ظلماً وعدواناً.
إن ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية وطباعته في العاصمة الإيرانية طهران يعد شهادة في حد ذاتها، إذ إن لهذا الأمر مدلولات كثيرة ومن أبرزها التأكيد على صحة ما جاء في هذا الكتاب؛ فقد يخرج علينا شخص يشكك في هذا الكتاب واتجاهات صاحبته وابتعادها عن الأمانة والصدق وما شابه ذلك، إلاّ أن ترجمة هذا الكتاب من قبل مترجمة إيرانية هي السيدة فرناز حائري وتصحيحه ومراجعته ونشره من قبل مثقف إيراني معروف، ومن ثم صدوره في طهران بددّ كل الشكوك والتساؤلات التي يمكن أن تثار حوله؛ حقاً إنها شهادة تاريخية من أبناء اللغة الفارسية وما أجملها من شهادة، ولو قدر لهذا الكتاب أن يكون مترجمه عربياً وناشره عربيا فربما لم توافق وزارة الثقافة الإيرانية على نشره وثارت حوله الكثير من الزوابع والتهم.
لا ريب أن الموضوع الذي اتخذته الكاتبة بحثاً لدراستها- وهو الهاجس الذي ظل يشغلني ردحاً من الزمن- مثير للجدل والدهشة والاستغراب؛ بل إنه شكل صدمة ثقافية ونفسية للعرب وغيرهم، إذ كانت الباحثة موفقة في اختيارها لهذا الموضوع المثير للجدل، فقد كان كتابها هذا بمثابة قنبلة فجرتها أمام القراء الناطقين بالانجليزية ثم بالفارسية ثم العربية، ولا شك أن الصدمة والدهشة والاستغراب والتأثير الذي يتركه هذا الكتاب ليس في مستوى واحد لدى كل هؤلاء القراء؛ فربما يكون الكتاب صدمة للقارئ الانجليزي إلا أنه أشد وقعاً وقسوة لدى القارئ العربي، فقد مضت سنوات طويلة دون أن يعرف القارئ العربي ماذا يدور في الأدب الفارسي المعاصر حول الشخصية العربية، حتى جاء هذا الكتاب ليرسم ملامح الشخصية العربية، ويقدم صورة متكاملة إلا أنها صورة مشوهة منفرة تثير الاشمئزاز والتنفر من العرب ومن كل شيء اسمه عربي.
إن صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر كما تجلت في كتاب المستشرقة الأمريكية صورة متعسفة ظالمة أساءت إلى العرب مرات عديدة: المرة الأولى عندما تجنى بعض الأدباء الفرس القوميين على العرب في الأدب الفارسي، وألصقوا بهم كل التهم والافتراءات وأشكال التخلف الأخرى، والمرة الثانية: الصورة التي قدمتها الباحثة في كتابها للناطقين بالانجليزية، فكل من يقرأ هذا الكتاب من الناطقين بالانجليزية وغيرهم سوف يقع تحت تأثيره، ومن ثم سوف تكون نتيجته تكوين صورة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها صورة مشوهة ظالمة، والثالثة: الدهشة والصدمة للقارئ العربي وهو يقرأ هذا الكتاب سواء كان ذلك باللغة الانجليزية أو الفارسية أو العربية، ومن ثم فإن موضوع هذا الكتاب شكل ظاهرةً بدأت باللغة الإنجليزية مروراً بالفارسية والعربية وانتهاء بلغات أخرى قد يترجم إليها هذا الكتاب؛ ولذلك فإن هذه الظاهرة التي أخذت تتوسع وتنتشر، تتجاوز اللغة والثقافة الواحدة وتنطلق من خلال الترجمة والمثاقفة وحوار الحضارات إلى العالمية، وأنى لنا أن نقف أمامها؟ حقاً إنها قضية تتطلب من الباحثين المتخصصين من أبناء العربية والمنصفين من مثقفي الأمم الأخرى التوقف والتأمل والتدبر ملياً أمامها؟ ومن ثم بحثها ودراستها بطريقة عقلانية تقوم على المنهج العلمي السليم القائم على الاستقصاء والتنظيم لا على العواطف والمشاعر.
ربما تتعدد الآراء وتختلف التوجهات، إلا أن هذا الاختلاف والتعدد لا يمنع الآخرين أن يجربوا ويدلوا بدلوهم في هذه القضية، ومن ثم المشاركة في الخطاب الذي يبحث في ظاهرة الترجمة والمثاقفة بشكل عام وصورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر بشكل خاص، على أي حال جميل أن نرى مثل هذا التفاعل والنشاط والعراك الثقافي الذي أثاره كتاب " معاداة العرب في الأدب الإيراني المعاصر" بيد أن الأجمل منه أن نحاول نحن العرب أعني النخبة الثقافية المشاركة في هذه الظاهرة من حيث دراستها وتحليلها والرد عليها حتى نفند ونبدد الصورة المشوهة التي تكونت في أذهان الآخرين عنا، ولاسيما في أذهان القارئ الإيراني والناطقين بالفارسية؛ أي المهد الذي ولدت منه هذه الظاهرة وترعرعت فيه، فقد بدأت هذه الظاهرة من الأدب الفارسي وبقيت لعشرات السنين بعيدة عن أنظار المثقفين العرب لا يعرفون ماذا يدور حولهم وكيف هي صورتهم في الأدب الفارسي المعاصر، حقاً لقد شكل هذا الكتاب صدمة للمثقف العربي ولكل من إطلع عليه؛ إذ إن المثقف العربي لم يكن يتصور في يوم من الأيام أن تكون صورة العرب هكذا في الأدب الفارسي، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العلاقات التاريخية والروابط الثقافية والتواصل مع الفرس منذ أزمان غابرة ضاربة في أعماق التاريخ.
لا شك أنه من حق أي أمة من الأمم أن تعتز بأصالتها وتراثها الحضاري والفكري ودورها في خدمة الحضارة الإنسانية، إلاّ أنه ليس من حق أمة من الأمم مهما كانت أن تحاول نفي الآخر، وإلغاء شخصية الآخرين، ودورهم الحضاري والفكري وتشويه صورتهم ووصفهم بأبشع الصور وأكثرها وحشية واشمئزازاً، ومن ثم تصويرهم على أنهم شر مطلق في سبيل التأصيل لتراثها، وحضارتها وتشكيل قوميتها وهويتها، وفي الوقت نفسه تصور نفسها على أنها جنة الله على الأرض وعلى أنها خير مطلق؟
لقد شكل الكتاب المذكور صدمة بكل معنى الكلمة؛ صدمة ثقافية لم يكن يتوقعها العربي وصدمة نفسية لم تكن تخطر بذهن المثقف العربي، والصدمة الأخرى هي: لماذا بقيت هذه القضية بعيدة عن أذهاننا لعشرات السنين حتى جاءت مستشرقة أمريكية بحثت هذه القضية في كتابها الذي نشرته باللغة الانجليزية، ثم عادت هذه القضية إلى الأدب الفارسي، وفي نهاية المطاف وصلت إلينا نحن العرب؛ فلماذا هذا الانتظار على الرغم من كوننا الأقرب تاريخيا وثقافيا ولغوياً وجغرافياً من الفرس وأدبهم؟ لكننا إذا ما رحنا نتلمس الأعذار لمثقفينا العرب، ونبحث عن أسباب القطيعة بين العرب والفرس فإننا سنجد الكثير غير أنه يكفينا أن نشير في هذا المقام إلى السبب السياسي وسبب جوهري آخر، ألا وهو أن القلة القليلة من العرب هم الذين يعرفون الفارسية، ولعل عدم معرفة اللغة الفارسية وآدابها كان السبب الرئيس وراء هذه القطيعة، وعدم الإطلاع على الأدب الفارسي بشكل مباشر، ومن هنا فإنه يقع على عاتق أساتذة اللغة الفارسية في الجامعات العربية وكل المتخصصين في هذه اللغة وآدابها مهمة المشاركة في التعريف بالأدب الفارسي بشكل عام والأدب الفارسي المعاصر والدراسات المقارنة بين العربية والفارسية بشكل خاص، وهو ميدان خصب وثري جداً، ولعل قسم اللغات السامية والشرقية في جامعة اليرموك الذي تدرس من خلاله اللغة الفارسية وآدابها وهو القسم الوحيد في الجامعات الأردنية، ساهم في هذه المسألة منذ تأسيسه عام 2000م، في حين سبقتنا جامعات عربية أخرى في تدريس اللغة الفارسية وآدابها في كل من مصر ولبنان،وقامت بدور كبير في التعريف بالأدب الفارسي الكلاسيكي ، إلا أنها أغفلت الأدب الفارسي المعاصر ولم تعره اهتماما كبيرا؛ فنحن أحوج ما نكون إلى معرفة اللغة الفارسية وآدابها، حتى نقرأ هذا الأدب ونتعرف عليه في لغته الأم، ولا نكتفي بما يترجم من المختارات فقط، ومن هذا المنطلق لابد أن نتعلم اللغات المختلفة ونقرأ كنوزها وروائعها بلغتها الأم، ومن ثم نطلع على صورة العرب في هذه الآداب ، والسؤال الكبير الذي يلح علينا هو: إذا كانت صورة العرب هكذا في الأدب الفارسي المعاصر فكيف هي في آداب الشعوب والأمم الأخرى؟!

الهوامش والتعليقات

(1) عرب ستيزى در ادبيات معاصر ايران، جويا بلوندل سعد، ترجمة فرناز حائرى، الطبعة الأولى، كارنك، طهران، 1382 ه.ش.
(2) انظر على سبيل المثال مقالة: " الأدب الفارسي الحديث: بذور العداء صاحبت ولادة الأدب الفارسي الحديث" يوسف عزيزسي في موقع www. Rezgar. com
(3) انظر مقالة "صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر" د. بسام علي ربابعة، مجلة أفكار، وزارة الثقافة الأردنية، عدد 227، أيلول 2007م، صص 21-27.
(4) انظر مقالة:" صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر، صادق هدايت نموذجاً"، قدم للدراسة ونقلها إلى العربية د. بسام ربابعة، مجلة كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، العدد الثاني والأربعون، يوليو 2007، الجزء الثاني، صص 137-156.
(5) انظر مقالة "مدخل إلى صورة العرب في الأدب الفارسي المعاصر "مجلة أفكار ، وزارة الثقافة الأردنية ، عدد235،أيار 2008،صص 7-26 .
(6) انظر مقالة:" صورة العربي في الأدب الفارسي" فيصل دراج في موقع ديوان العرب www.diwanalarab.com
(7) انظر مقالة:" صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث" في موقع عربي اهوازي www.arabiahwazi.jeeran.com وانظر كذلك مقالة " العرب بعيون فارسية" جهاد فضل في موقع www.alriyadh.com .
(8) انظر كتاب: تاريخ مختصر زبان فارسى، د. محسن أبو القاسمى، الطبعة الثانية، طهورى، طهران، 1378، ص 57.
(9) انظر الفصل الثاني من كتاب: اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، د. محمد مصطفى هداره، الطبعة الثانية، دار المعارف، القاهرة، صص 78-95 وترجمة هذه المقالة إلى اللغة الفارسية تحت عنوان:" تأثير فرهنگ ايران در ادبيات عرب قرن دوم هجرى، ترجمة بسام علي ربابعة، مجلة "نامه پارسى" عدد 1، ربيع 1382، صص 107-124.
(10) من الجدير بالذكر أن صاحب هذه الكلمات عمل على ترجمة هذا الفصل ونشره في مجلة أفكار الأردنية التي سبقت الإشارة إليها، وقد اعتمد الباحث في عرضه لهذا الكتاب على الخلاصة التي قدمتها المؤلفة في الفصل الخامس من دراستها؛ ولذلك جاءت بعض الفقرات مترجمة بتصرف.
(11) انظر مقالة:" مؤامرة لتغيير اللغة الفارسية" د. خسرو فرشيدور، ترجمة د. بسام علي ربابعة، مجلة الدراسات الأدبية، الجامعة اللبنانية، عدد11، 12، 13، سنة 2005 صص 11-37.
(12) انظر مقالة :" نيما يوشيج رائد الشعر الفارسي الحديث" ترجمة د. بسام علي ربابعة، مجلة فصلية إيران والعرب، عدد 12،13، سنة 2005، صص 29-35.
(13) انظر مقالة:" فصول في الأدب الفارسي المعاصر" د. شفيعي كدكني، قدم للدراسة ونقلها إلى العربية د. بسام علي ربابعة،مجلة جرش الثقافية، جامعة جرش، الأردن، العدد السابع والثامن، شتاء 2007-2008، صص 191-201.

هناك 3 تعليقات:

Unknown يقول...

لقد أتحفتنا بهذه البانوراما عن النظرة الفارسية للعربي بارك الله فيك وكثر من أمثالك ..

Unknown يقول...

لقد أتحفتنا بهذه البانوراما عن النظرة الفارسية للعربي بارك الله فيك وكثر من أمثالك ..

Unknown يقول...

معلومات رائعه جدا اتمنى كل التوفيق لاستاذنا الرائع الدكتور بسام ربابعه على المعلومات الرائعه التي حقيقه لم اكن لاعرفها لولا موقعكم الكريم كل التقدير دكتور بسام

الربابعة يترجم كتابين من الأدب الفارسي المعاصر خبر صدور كتاب أنطولوجيا الرواية الفارسية المعاصرة  وكتاب مراحل  الشعر   الفارسي على موقع جامع...