الترجمة والمثاقفة العربية الفارسية: كتاب الشعر العربي المعاصر أُنموذجاً
مجلة كلية اللغات والترجمة/جامعة الملك سعود، صص35- 57، المجلد2013،25م
مجلة كلية اللغات والترجمة/جامعة الملك سعود، صص35- 57، المجلد2013،25م
الملخص
تقوم هذه المقالة على تعريف كتاب "الشعر العربي المعاصر" وتحليله في إطار المثاقفة العربية
الفارسية؛ متخذةً منه أُنموذجاً لدراسة هذه الظاهرة من خلال الترجمة التي كانت على مرّ العصور والأزمان أهم
وسيط ثقافي في نقل المعرفة والتواصل مع الآخر؛ فقد حاز هذا الكتاب قصب السبق، من حيث كونه رائداً في تعريف الناطقين باللغة
الفارسية على الشعر العربي المعاصر: تطوراته الشعرية وتياراته ومدارسه وأشهر
شعرائه؛ وقد بدأت هذه المقالة بعد التمهيد بالتعريف بمؤلف الكتاب الدكتور محمد رضا
شفيعي كَدْكَني وآثاره، وتوضيح دور الترجمة وأهميتها في المثاقفة بشكل عام، وفي
المثاقفة العربية الفارسية التي تعود جذورها إلى مرحلة ما قبل الإسلام بشكل خاص،
ثم تمّ تحليل الكتاب من خلال العناوين التالية: الشعر العربي المعاصر، ونظرية
الأواني المستطرقة، وعالمية الشعر العربي والفارسي، وتشابهات الشعر الحديث في
الأدبين العربي والفارسي، وتطورات الشعر العربي المعاصر، و خلصت في النهاية إلى
النتيجة.
تمهيد
تتناول هذه المقالة دراسة وتحليل
كتاب "الشعر العربي المعاصر" للأستاذ الدكتور محمد رضا شفيعي كَدْكَني،
الذي صدرت طبعته الأولى باللغة الفارسية في طهران عام 1980م(1)؛ في حين
جاءت الطبعة الثانية بعد إحدى وعشرين سنة(2001)(2) متميزة عن
أختها في احتوائها على نماذج شعرية للشعراء الذين ترجم لهم المؤلف، مقرونة بأصولها
العربية، كما امتازت بإضافات جديدة هي: ترجمة مقالة موسومة بـ"أنقذونا من شرّ
هذا الشعر" للشاعر العربي الكبير محمود درويش، ومقالة جديدة تحت عنوان
"تشابهات الشعر الحديث في الأدبين العربي والفارسي"، ومقالة نقدية تحليلية
حول "معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين"، وإذا ما أخذنا بعين
الاعتبار المدة الزمنية التي طُبع بها الكتاب في نهاية السبعينيات من القرن الماضي،
فقد حاز قصب السبق من حيث كونه رائداً في تعريف الناطقين باللغة الفارسية على
الشعر العربي المعاصر: تطوراته الشعرية وتياراته ومدارسه وأشهر شعرائه؛ إذ لم يسبق
المؤلف شخص آخر في هذا المجال، بل يمكن القول إن المؤلف لفت انتباه الآخرين إلى
هذا الجانب، خاصة أنه كان قد نشر بعض مقالات هذا الكتاب والأشعار المترجمة- منذ
وقت مبكر نسبياً- في المجلات المعروفة التي كانت تصدر في طهران، قبل أن يُقدم على
طباعته على شكل كتاب مستقل.
لقد قدّم المؤلف الذي يتمتع بشهرة واسعة، ومصداقية
عالية لدى القارئ الإيراني جهداً طيباً يشكر عليه في التعريف بالشعر العربي
المعاصر، ولمّا كان الكتاب من تأليفه فقد عزّز هذا الجانب من أهميته وانتشاره،
ومنحه ميزة خاصة، وهكذا تتضح ريادة هذا الكتاب وأسبقيته وأهميته في تعريف الناطقين
باللغة الفارسية من طلاب وأساتذة ومختصين، والمهتمين بالشعر العربي المعاصر، والترجمة
بين العربية والفارسية، والدراسات المقارنة على الأدب العربي المعاصر، ولا سيّما
الشعر منه؛ ولذلك وقع اختيار الباحث على هذا الكتاب، واتخذ منه أُنموذجاً لدراسة ظاهرة
الترجمة والمثاقفة العربية الفارسية؛ آملاً أن يكون قد وفق في اختياره لهذا الموضوع،
وتجليته بالصورة الصحيحة التي يستحقها.
مؤلف الكتاب وآثاره
أما صاحب
الكتاب فهو الأستاذ الدكتور محمد رضا شفيعي كَدْكَني الشاعر، والناقد، والمترجم، والأستاذ
الجامعي الذي يتمتع بشهرة واسعة داخل إيران وخارجها، والأستاذ الجليل، والعالم الفاضل
الذي عزّ نظيره في الأدب الفارسي خاصة، وفي الجامعات الإيرانية بشكل عام.
ولد محمد
رضا شفيعي كَدْكَني المشهور بـ:" م. سِرشك" عام 1939م في قرية كَدْكَنْ
إحدى قرى نيسابور التابعة لخراسان، ودرس وترعرع في أحضان والده الذي كان له دور
كبير في صقل شخصيته وتهيئته للمستقبل، وكأنّه قد تنبأ بما سيكون لابنه من شأن في
الأدب الفارسي، وقد رأى فيه ملامح النبوغ منذ طفولته، ثم التحق بالحوزة العلمية في
خراسان حيث تبلورت اهتماماته بالعلوم الإسلامية منذ نعومة أظفاره، وبرزت جلية
واضحة في غير موطن من آثاره المتعددة.
على أي
حال، أمضى شفيعي كَدْكَني سنواته الخمسة عشرة الأولى في الحوزات العلمية في
خراسان، دون أن يلتحق بالمدارس الحكومية، وكان مسروراً بهذا الصنيع؛ إلا أنه لم
يستمر في هذا الاتجاه لأسباب كثيرة، فقد ترك الحوزة واتجه إلى التحصيل الجامعي؛ إذ
التحق بجامعة مشهد، وتتلمذ على يد أساتذة مشهورين كالدكتور "غلام حسين"
يوسفي، والدكتور رجائي الخراساني، وفي سنة 1965 حصل على شهادة البكالوريوس في
اللغة الفارسية وآدابها من هذه الجامعة، ثم انتقل إلى جامعة طهران لمتابعة دراساته
العليا في برنامج الماجستير والدكتوراة، حيث تعرف على أساتذة كبار كـ: بديع الزمان
فروزانفر، وملك الشعراء بهار، والدكتور برويز خانلري، وفي سنة 1969م حصل على شهادة
الدكتوراة في اللغة الفارسية وآدابها من هذه الجامعة، وبدأ عمله مدرساً في هذه
الجامعة منذ تلك السنة، حتى وصل إلى درجة الأستاذية.(3)
يعدّ الأستاذ
الدكتور محمد رضا شفيعي كَدْكَني، الذي ما زال يُدرّس في قسم اللغة الفارسية
وآدابها في جامعة طهران ويشرف على طلبة الماجستير والدكتوراة، وقد جاوز السبعين من
عمره نابغة من نوابغ الأدب الفارسي، ونخلة سامقة لا يطاولها أحد في سمائه؛ فهو
أستاذ لا مثيل له في الجامعات الإيرانية وفي تخصص اللغة الفارسية وآدابها، وقد
تتلمذ على يديه عشرات الأساتذة حتى أصبح مدرسة لا يشق غبارها؛ إذ إن شهرته طبقت
الآفاق فأضحى حجة يستدل بها، فالأساتذة الإيرانيون حينما يحتدم النقاش بينهم، ويريدون
التدليل على قضية معينة، أو حل مشكلة عويصة، أو القول الفصل في مسألة ما يستشهدون
بآرائه، فتقطع جهيزة قول كل خطيب، وهو ما لمسته عن قرب أثناء دراستي في إيران،
ومشاركتي في المؤتمرات التي كانت تقام بين الفينة والأخرى في الجامعات الإيرانية.
تجذّرت الثقافة العربية لدى أستاذنا الفاضل
وترسّخت حتى تسربت عباراتها إلى ثنايا كتبه وأبحاثه وأشعاره وحديثه أيضاً؛ فلا
نكاد نجد كتاباً من كتبه يخلو من هذه الخصوصية؛ بل إن بعض مجموعاته الشعرية قدّم
لها بعبارات عربية، كما اختار لبعض قصائده عناوين عربية خالصة، كما تبدو هذه
المسألة واضحة في العبارات التي يتداولها في محاوراته، ومنها على سبيل المثال
استشهاده بالأمثلة العربية، وقد سمعته يستشهد بالمثلين المشهورين:"أسمع جعجعة
ولا أرى طحناً" و"فسّر الماء بعد الجهد بالماء" في بعض المواقف.
يتقن الأستاذ الدكتور محمد رضا شفيعي كَدْكَني
اللغة العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى لغته الأم اللغة الفارسية؛ فقد بدأت
اهتماماته باللغة العربية منذ طفولته، عندما كان يدرس النصوص الكلاسيكية ويحفظها
عن ظهر قلب، إذ وهبه الله ذاكرة قوية جعلته يحفظ كل شيء من المرة الثانية، وآتت
هذه الاهتمامات بالعربية نضجها، وتبلورت في الدراسات والكتب التي
ألفها حول الأدب الفارسي(4) أو التي ترجمها عن اللغة العربية، والتي
تجلت في كتابه "الشعر العربي المعاصر" موضوع هذه المقالة.
أما عن آثار هذا
الأستاذ الفاضل فهي كثيرة جداً؛ فقد أغنى المكتبة الفارسية بكثير من الكتب التي
بلغت العشرات، ما بين كتب مؤلفة ومصححة ومترجمة ودواوين شعرية، وبما يزيد على مئتي
مقالة منشورة في مجلات علمية محكمة، وليس في وسعنا أن نعدد كل آثاره، ولهذا فإننا
نكتفي بالإشارة إلى نماذج منها(5):
أولاً: الكتب المؤلفة والمصححة
1- صور خيال در
شعر فارسى: الصور الأدبية في الشعر الفارسي.
2- موسيقى شعر:
موسيقى الشعر.
3- تاريخ
نيشابور ، أبو عبد الله النيسابوري (تصحيح).
4- منطق الطير:
فريد الدين العطار (تصحيح).
5- ادبيات
فارسى از عصر جامى تا وزرگار ما: الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا، وهو
الكتاب الذي ترجمه صاحب هذه المقالة ونشرته مجلة "عالم المعرفة" في
عددها 368، عام 2009م، ولاقى اهتماماً منقطع النظير في العالم العربي.
6- ادوار شعر
فارسى از مشروطيت تا سقوط سلطنت: مراحل الشعر الفارسي منذ الحركة الدستورية وحتى
سقوط الملكية، وهو الكتاب الذي ترجمه صاحب هذه المقالة أيضاً، وما زال ينتظر النور.
7- مختار نامه:
مجموعة رباعيات فريد الدين العطار.
8- اين
كيمياى هستى: هذه كمياء الحياة.
9- شاعر آينه
ها: شاعر المرايا.
10- با چراغ وآینه؛ در جست وجوی
ریشههای تحول شعر معاصر ایران: المصباح والمرآة: في البحث عن جذور تطور الشعر الإيراني المعاصر.
ثانياً:
الكتب المترجمة
1- آفرينش
وتاريخ: الخلق والتاريخ، مطهر بن طاهر المقدسي.
2- رسوم دار
الخلافة، هلال بن محسن الصابي.
3- أبو مسلم
خراساني ، محمد عبد الغني حسن.
4- شعر معاصر
عرب: الشعر العربي المعاصر.
ثالثاً: الدواوين الشعرية
1- زمزمه ها:
الهمسات.
2- در کوچه باغ های نیشابور: في أزقة حدائق
نيسابور.
3- از بودن
وسرودن: من الكينونة والإنشاد.
4-آيينه
براى صداها: مرآة للأصوات واحتوى على سبع مجموعات شعرية.
5- هزاره دوم آهوى كوهى: الألفية الثانية
للغزلان البرية، واحتوى على خمس مجموعات شعرية .
الترجمة والمثاقفة
لقد غدت
الترجمة ثورة عظيمة الأثر على مختلف المستويات والأصعدة الثقافية والأدبية
والعلمية وغيرها، وشكّلت جسراً للتواصل مع الثقافات المختلفة والحضارات المتعددة؛
إذ إن الترجمة التي تشّكل فيها الكلمة الركن الأساس تلعب دوراً مهما في تلاقح
الأفكار وتثاقفها، والتفاعل والحوار مع الثقافات واللغات الحية، والشعوب والأمم
الناطقة بهذه اللغات في شتى مناطق المعمورة، في ظل العولمة وما نعيشه من تسارعات
كبيرة جداً في هذا العصر؛ فالترجمة إبداع حيوي، وتزاوج فكري، وتبادل ثقافي، وعطاء
أدبي، ومشاركة علمية، وظاهرة تدعونا إلى التفاعل الايجابي مع ثقافات الشعوب
الأخرى، ومحاولة فهم ما لدى الآخرين من أفكار ومعارف؛ وهي التي حفظت التراث
العالمي من الضياع والاندثار والآفات الأخرى، ولا شك أن إقامة العلاقات والتفاهم
مع الثقافات والحضارات الأخرى من بين الأهداف التي تسعى الترجمة لتحقيقها، ومن ثمّ
فإن الترجمة وسيلة لتبادل الثقافات ونشرها، وتعانق الحضارات والتقائها -لا تنافرها
وصراعها - والإطلاع على ما لدى الآخرين من فكر وثقافة، ونحن مطالبون اليوم أكثر من
ذي قبل بالانفتاح على الحضارات والثقافات واللغات الأخرى؛ لأنها تشكّل نوافذ لنا للاستفادة
من الفكر العالمي، وفي النهاية فإن الهدف الذي تسعى إليه الترجمة هو المساهمة في
الفكر العالمي، وإثرائه بالأفكار البناءة والمفيدة، وهنا يتجلى دور الترجمة وأثرها
في التفاعل الثقافي، وما ينتجه العقل البشري.(6)
حظيت الترجمة
في العالم العربي عبر العصور والأزمان- بوصفها وسيلة من وسائل الاتصال، وقناة من
قنوات نقل المعرفة وتبادل الأفكار والمفاهيم بين الأمم والشعوب والتقريب بين الحضارات
المختلفة والثقافات المتعددة - بمكانة مرموقة من حيث الرعاية والاهتمام؛ ففي العصر
العباسي وفي عهد الخليفة المأمون تم تأسيس "بيت الحكمة"، وفي العهد
الفاطمي ظهرت "دار الحكمة"، وفي العصر الحديث وجدت "مدرسة
الألسن" التي أنشأها رفاعة الطهطاوي، وفي بدايات الألفية الحالية تمّ إنشاء
كثير من المؤسسات والهيئات ومراكز الدراسات التي عنيت بالترجمة، وأقدمت على ترجمة بعض
الآثار المهمة إلى اللغة العربية، وعلى الرغم من كل هذا؛ فقد تعرضت حركة الترجمة
في العالم العربي إلى أزمات متعددة ومخاضات كثيرة، وما زالت تعاني كثيراً من
المعضلات والمشكلات، ويكفي أن نستذكر أن كل ما يترجم سنوياً في العالم العربي قليل
جداً، ولا يكاد يذكر نسبة إلى ما يترجم في دولة صغيرة من دول العالم، وهذا شيء
يندى له الجبين، ويجعل المترجمين والمستنيرين والمثقفين في العالم العربي يتصببون
عرقاً، ومن ثمّ فإن الترجمة في العالم العربي تنم عن وجود فجوة كبيرة، وحوار غير
متكافىء بين العرب والأمم والشعوب الأخرى، ولهذا فإن الواجب يفرض علينا المسارعة
إلى رتق ما فتق، وملء هذه الفجوة قبل أن تزداد اتساعاً، وحتى يكون للترجمة أثرها
الفاعل والمطلوب في نقل المعارف والعلوم والثقافات المتعددة، وتقوم بدورها المتوقع
في التبادل الثقافي والمعرفي والتفاعل مع الآخرين، لا بدّ أن نعيرها الاهتمام الكافي
والرعاية المعنوية والمادية، وأن تكون متكافئة بين العرب وغيرهم، وليست من طرف
واحد.
حقاً إننا نعيش
في زمن عجيب، وفقر ثقافي مدقع، وخوار فكري، واستلاب حضاري، ويكفي أن نلقي نظرة على
تقرير المعرفة في العالم العربي للسنوات الأخيرة حتى نذهل بلغة الأرقام، وندرك
أننا على حافة الهاوية المعرفية والعلمية، وأن الثقافة العربية في خطر داهم؛ إذ
إنها تكابد أزمة عصيبة، وتواجه تحديات جمّة، وتستدعي وجود استراتيجية شفافة وواضحة
تعمل على تعزيز الايجابيات وتلافي السلبيات، وهذا ما يفرض علينا أن نعير الأمور
الثقافية والمعرفية جانباً من الاهتمام؛ إن لم يكن الاهتمام الكافي، ولهذا أحسب أن
الترجمة التي تعدّ معيناً لا ينضب، ومنبعاً خصباً وثرياً تأخذ على عاتقها دوراً
كبيراً في محاربة هذا الفقر الثقافي والانطواء على النفس، والانكفاء على الذات،
ومن ثم الخروج من شرنقة الأنا وحب الذات، والانطلاق في فضاءات رحبة وجديدة من أجل
معرفة الآخر ومحاورته، وما الترجمة إلا شكل من أشكال العولمة، وحوار الحضارات
والثقافات المتباينة، ونحن أحوج ما نكون إليها في الوقت الحالي من أجل انعاش وجود
الآخر في حياتنا، خاصة مع كل هذه الدعوات التي تنادي بالعولمة وحوار الحضارات وتواصل
الثقافات، ولذلك أسجل هنا هذه الدعوة إلى تبني لغة الحوار، ونبذ الصراعات
والخصومات والمهاترات، إنْ على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الأمم والشعوب، حتى
نتفادى كثيراً من الاختلافات والمآسي والصراعات والحروب التي نحن في غنى عنها،
ولهذا فإن التبادل الثقافي والإطلاع على ما يمتلكه الآخرون لا يكون إلا بالمعرفة
والترجمة، التي تشكل إحدى المرجعيات الثقافية، والينابيع المعرفية لكل الأمم
والشعوب في هذا العالم.
على الرغم من كوننا نعيش في القرن الحادي والعشرين عصر الحداثة والانترنت والعولمة، ومع إدراكنا لجدلية المعرفة والجهل، وتناقضات الحياة ومفارقاتها وتعقيداتها، وتشظي الشخصية العربية وتوجهاتها بين هذا وذلك، واختلاف مرجعياتها الفكرية ومنابعها الثقافية وإيديولوجياتها الأخرى، واستحضارنا لتقارير المعرفة الصادمة في العالم العربي في السنوات المنصرمة(7)، فإن الثقافة وتجلياتها هي الشيء الوحيد الذي يجمعنا؛ فإذا كانت السياسة قد فرّقتنا فلتوحدنا الثقافة، ومن ثم ندرك أن الترجمة ما زال لها دور رئيس في نقل المعرفة والثقافة والأفكار وتداولها بين الأمم والشعوب، وبدون شك فقد أضحت الترجمة وسيلة من وسائل العولمة ونقل المعرفة، وحوار الحضارت وتواصل الثقافات المختلفة؛ غير أن الواجب والمنطق يفرض علينا أن نكون على وعي تام حيال هذه القضية حتى لا يتمّ استغفالنا، وتنطوي علينا الحيل، ونجري مع التيار الجارف، ومن ثمّ نكون جزءاً منه من حيث لا ندري، ولذلك فإننا بحاجة إلى إعمال العقل والمنطق وتصفية هذه العولمة، وتوجيهها بما يتناسب مع هويتنا واعتقاداتنا التي أصبحت في معرض التهديد؛ فكل الأمم والشعوب تتمتع بهوية خاصة بها، ونحن نتمتع بهوية عربية إسلامية يجب المحافظة عليها وصيانتها، والحؤول دون الدعوات المشبوهة التي تسهتدف هويتنا وثقافتنا وعقيدتنا وقيمنا وأنماط حياتنا، فنحن أمة تعتز بماضيها العريق وبطولاتها وأمجادها، كما ندرك أيضاً تزاحم الفضاء المادي والمعرفي بأشكال وأنواع متعددة من الثقافات، وهنالك مَنْ يبحث عن إساءة استعمال العولمة والمثاقفة لأغراض خاصة ومُسيّسة تخدم سياساته وتطلعاته؛ إذ أصبحت العولمة مظهراً من مظاهر "القوى الناعمة"، و"الفوضى الخلاقة"، والصراعات الخفية، والمؤامرات الثقافية، وعمليات غسل الأدمغة وتوجيهها، وقد تعالت بعض الأصوات في الغرب نفسه محذرة من العولمة ومخاطرها، وكل هذه الدواعي تفرض علينا أن نكون واعين ومشاركين في هذا الفضاء الواسع، وهذه العولمة وليس متلقين فقط، إذ إن المثاقفة- والترجمة مظهر من مظاهرها ووسيلة من وسائلها- لم تكن في يوم من الأيام وعلى مرّ التاريخ من طرف واحد أبداً.
المثاقفة العربية الفارسية
إن
المثاقفة العربية الفارسية ليست مسألة جديدة، بل إنها قديمة وجذورها ضاربة في
أعماق التاريخ، والدليل على ذلك الكلمات الفارسية التي تسربت إلى اللغة العربية منذ
وقت مبكر، والتي ورد بعضها في القرآن الكريم كـ: فردوس وسندس واستبرق وسرادق....؛
بيد أن المثاقفة العربية الفارسية برزت بشكل واضح في مرحلة ما بعد الإسلام، وتجلت في
مسائل كثيرة منها الثقافية واللغوية والاجتماعية والدينية؛ ففي المجال اللغوي يكفي
أن نعرف أن الأبجدية العربية دخلت كاملة إلى اللغة الفارسية محدثة مرحلة جديدة،
ومنعطفاً تاريخياً في اللغة الفارسية وآدابها، حتى وصل الأمر إلى تقسيم اللغة
الفارسية إلى مراحل ثلاثة هي: الفارسية القديمة (1000 - 331 ق.م) والفارسية
البهلوية (331 ق.م- 254هـ) والفارسية الحديثة الإسلامية التي يؤرخ لها بسنة 254هـ
وحتى الآن.
استبدلت
الفارسية الحديثة أبجديتها القديمة وأصبحت تستعمل الحروف العربية، ومن هنا أحدثت العربية ثورة في اللغة الفارسية عزّ مثيلها في اللغات الأخرى، ولذلك يمكننا
القول بكل اطمئنان إن المثاقفة العربية الفارسية لا مثيل لها في اللغات الأخرى،
فقد وصل هذا التثاقف إلى درجة أن الكلمات العربية التي دخلت إلى هذه اللغة-
باعتراف مجمع اللغة الفارسية- أصبحت تشكّل حوالي60% من مفردات اللغة الفارسية، ولا
نعرف لغة أخرى استعارت هذا الكم الكبير من الكلمات والمفردات من لغة أخرى مثل
اللغة الفارسية، التي تأثرت باللغة العربية وآدابها بشكل عميق، حتى إن الشعر
الفارسي الذي يشكّل كنزاً من كنوز الحضارة الفارسية وتراثاً حضارياً غنياً ولد تحت
تأثير الشعر العربي، وجاء متأثراً بقوالبه الشعرية ومضامينه وموضوعاته واصطلاحاته
المختلفة، ولذلك فإن الشعر الفارسي مدين للشعر العربي باعتراف الأساتذة الإيرانيين
والعرب، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة كذلك إلى علوم البلاغة: المعاني والبيان
والبديع، والعروض والقافية التي دخلت بقضها وقضيضها إلى اللغة الفارسية، وأصبحت
تستعمل في هذه اللغة بعد أن استعارتها من اللغة العربية.... لكل هذا فإن النتيجة
التي نخلص إليها أن اللغة الفارسية والأدب الفارسي مدينان للعرب بشكل أو بآخر، ومن
ثم فإنهما ثمرة من ثمرات المثاقفة العربية الفارسية.(8)
إنّ عملية
المثاقفة هذه التي بدأت مع الفتح الإسلامي لإيران واستمرت عبر العصور بأشكال
مختلفة، وصور متنوعة كان من أبرزها حركة الترجمة، التي بدأها عبد الله بن المقفع
بترجمة كتاب "كليلة ودمنة" إلى اللغة العربية عن اللغة الفارسية
البهلوية، وما زالت الترجمة بين العربية والفارسية منذ ذلك اليوم، وحتى أيامنا هذه
- وإن اعتورها الفتور والتراجع بين الحين والآخر- مستمرة ولم تنقطع في أي عصر من
العصور، ولا بدّ هنا من تسجيل هذا الاعتراف، وهو أن حركة الترجمة من العربية إلى
الفارسية قد نشطت وانتعشت مرة أخرى مع نهايات القرن المنصرم وبدايات الألفة الحالية، إذ أقدم بعض المترجمين الإيرانيين على
ترجمة بعض الآثار المعاصرة من الأدب العربي، شعراً وقصة ورواية ومسرحية؛ حتى باتت
أسماء أشهر الشعراء والأدباء العرب كـ: بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي،
ونازك الملائكة، ومحمود درويش، ونزار قباني، وأدونيس، وسميح القاسم، ومظفر النواب،
وأحمد مطر، وغسان كنفاني، ونجيب محفوظ، وصلاح عبد الصبور ومحمد الفيتوري، وتوفيق
الحكيم، وجرجي زيدان، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وسعاد الصباح، وغادة السمان
معروفة في إيران؛ بل إن قائمة المترجمين الذين عملوا على ترجمة بعض آثار جبران
خليل جبران إلى اللغة الفارسية قد جاوزوا أربعين مترجماً، ولذلك فإن هنالك مئات
الكتب التي ترجمت من العربية إلى الفارسية وبالعكس، ومن هنا فإننا ندرك الدور الكبير
والمهمة العظيمة التي تقع على كاهل الترجمة في عملية المثاقفة العربية الفارسية أو
في أي لغة أخرى، ومن أجل التأكيد على أصالة الثقافة والتراث الحضاري الفارسي ودور
الفرس في الحضارة الإسلامية فإن ثمة جهوداً بذلت في إطار دراسة إنجازات العرب
والفرس في خدمة الإسلام، وفي هذا المضمار يمكننا الإشارة إلى كتاب "الخدمات
المتبادلة بين الإسلام وإيران" لمرتضى مطهري.(9)
الشعر العربي المعاصر
إن المدقق في كتاب" الشعر العربي
المعاصر" الذي يقع في ثلاثمئة وست وخمسين صفحة من القطع المتوسط يجد المؤلف
ضليعاً ومتبحراً باللغة العربية، وعلى علاقة وطيدة بالشعر العربي المعاصر، وما
يجري في العالم العربي من تطورات ثقافية وأدبية، وهو الذي تعلم اللغة العربية منذ
أيام طفولته قبل أن يتعلم الفارسية–حسب اعترافه - وبقي طوال حياته وما زال يطالع
بهذه اللغة(10)، إلى جانب اللغة الفارسية والانجليزية؛ وقد ربطته علاقات
وثيقة بالأدباء العرب وجمعته مع بعضهم جلسات نقدية وحوارات فكرية، ومن أشهرهم: نجيب
محفوظ، وأدونيس( علي أحمد سعيد)، وكمال أبو ديب، وعبد الوهاب البياتي، الذي ترجم
له ورثاه شعراً عندما تناهى إلى مسامعه خبر وفاته عام 1999م وكان يومها يقيم في
طوكيو(11)، ومن الجدير بالذكر أن هذا الأستاذ الفاضل عمل على ترجمة
مجموعة من أشعار عبد الوهاب البياتي صدرت في طهران عام 1969م على شكل كتاب تحت
عنوان "آوازهاى سندباد"أي أناشيد السندباد(12)، وكل هذه
الأشياء أثرت في أحكامه النقدية ودراسته المتميزة عن الشعر العربي المعاصر، والحقيقة أن
كتاب "الشعر العربي المعاصر" موضوع هذه المقالة يحتاج إلى دراسة معمقة
تعطيه حقه من البحث والدراسة والتحليل، وتقف على بعض الهفوات والمزالق التي وردت
فيه، والمقالة الحالية ليس بمقدورها القيام بهذه المهمة، ولا تستطيع وحدها الإلمام
بهذا الكتاب من كل جوانبه وزواياه.
إن نثر المؤلف
نثر جميل ساحر مؤثر يجعلك تسافر في أعماق الكلمات، ويحملك في أمواج البحر علّك
تقتنص اللحظات الجميلة وتعود بالصيد الثمين؛ فلغة صاحب هذا الكتاب سمفونية موسيقية
تهز الإنسان وتطربه وتنال إعجابه، وهذه القدرة العجيبة تشاهد في لغته الخاصة في كل
كتاباته وترجماته أيضاً؛ فهي أجمل من الشعر وقعاً وإيقاعاً وتأثيراً، وهذه اللغة
الساحرة الرائعة التي تسحر العقول وتسبي القلوب بروعتها وشفافيتها وعمقها تذكّرنا
بلغة طه حسين في مؤلفاته الرائعة.
إنّ أسلوب
المؤلف أسلوب جميل آخّاذ يطرب الإنسان ويهزه من الأعماق، فلقد ملك هذا الأستاذ
الكبير ناصية اللغة وملكة التعبير بها؛ إذ إنه صاحب كلام جميل وعبارات رشيقة،
وأسلوب ممتع وذوق رفيع يشد القارئ ويعجبه، ولذلك فإن كتبه سرعان ما تنفد من الأسواق
بعد طباعتها بمدة وجيزة، ولا ننسى أن المؤلف شاعر مرهف، وقد أثرت شاعريته في لغته
الجميلة، وهذا ما عزّ نظيره، فهو شاعر ضليع باللغة الفارسية، وناقد حصيف، وأستاذ
جامعي من الدرجة الأولى، وهذا ما لم يتوافر لدى غيره من الأساتذة الآخرين؛ ولذلك
فإن اللغة التي يمتلكها ويقدّمها للقراء لغة شاعرية تدخل الإعجاب واللذة والسرور
على القلوب(13)، وقد تجلّت جماليات الترجمة لديه، والقدرة على نقل
النصوص من اللغة العربية إلى الفارسية في هذا الكتاب موضوع الدراسة؛ إذ إن القارئ
لا يحس بأن هذه النصوص مترجمة، بل يقرؤها وكأنها كتبت باللغة الفارسية.
نظرية الأواني المستطرقة
إن ما يسترعي
الاهتمام في هذا الكتاب بداية مقدمة الطبعة الثانية؛ التي جاء تحت عنوان "الأواني
المستطرقة"؛ إذ جاءت هذه المقدمة غنية ومركزة، ومعمقة ومؤكدة أهمية التطورات
التي حدثت في القرن الماضي في الحياة الثقافية للإيرانيين والعرب على السواء، وقد
بدأ صاحب الكتاب هذا المقدمة هكذا:" يمر قرن من الزمان على اليوم الذي دخلت
فيه أوائل الترجمات الشعرية الغربية -على شكل قصص لافونتين- إلى اللغتين الفارسية
والعربية، وقد شهد الشعر الفارسي والعربي تحولات كبيرة في هذا القرن..."(14)،
كما نجده يؤكد في مقدمته أهمية الترجمة وتأثيرها في التطورات التي حدثت في كل من
الشعر الفارسي والعربي، ولذلك فإنه يعزو التحولات والتغيرات التي شهدتها مسيرة الشعر
في الأدبين العربي والفارسي إلى الترجمة، ولا شك أنه قد وفق في تشخيصه، وكان
الصواب حليفه في وجهة نظره هذه، فها هو يقول:" إن تطورات الشعر الفارسي
والعربي في هذا القرن تابعة لتغير الترجمة في هاتين اللغتين".(15)
بيد أن المؤلف
لم يكتف بهذه الملاحظة، بل إنه راح يعمّق قضية الترجمة وتأثيرها في كل من الشعر
العربي والفارسي، وهو صاحب النظرة الثاقبة والرأي السديد، والباحث الجاد الذي لا يطلق
الأحكام جزافاً، بل إنه لا يصدر رأيه إلا بعد تمحيص وتدقيق، وقد بنى وجهة نظره
التالية على النظرية المعروفة بـ "نظرية الأواني المستطرقة" حيث يقول:
"إن الماء الموجود في أوانٍ مرتبطة مع بعضها البعض يستقر في سطح واحد، وما
حدث في الشعر العربي المعاصر خلال هذا القرن (الماضي) هو نفسه ما حدث في الشعر
الفارسي المعاصر أيضاً، مع بعض الاختلافات الطفيفة المتأتية من الظروف المختلفة
لثقافات وبنية حياة العرب والإيرانيين؛ إذ إن تأثر بروين اعتصامي، وملك الشعراء
بهار، وإيرج ميرزا هو تأثر جيل أحمد شوقي، وإيليا أبو ماضي مع بعض الاختلافات، كما
أن تأثر فروغ فرّخ زاد، وأحمد شاملو، وسهراب السبهري بالشعراء الآخرين هو تأثر
خليل حاوي، وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس..."، ويخلص المؤلف إلى النتيجة
التالية التي تستحق منا التأمل والتدبر: "كما ترون فإن كل ما حدث في الشعر
العربي في القرن الماضي له نظير في الشعر الفارسي مع بعض الاختلافات
الطفيفة...".(16)
حقيقة إن
الكتاب الذي بين أيدينا يتكون من جزءين هما: ترجمة وتأليف؛ إذ إن الترجمة تجلت في
ثلاثة فصول هي:"تطورات الشعر العربي المعاصر" للدكتور مصطفى بدوي( صص 63
– 96)، وفصل "خصائص الشعر العربي الحديث" لنزار قباني (صص 97-112)، وفصل
"أنقذونا من شرّ هذا الشعر" لمحمود درويش( صص273- 286)، كما تجلت
الترجمة في المختارات الشعرية التي قدّمها المؤلف في ثنايا كتابه مقرونة بالأصل
العربي؛ في حين أن سائر الكتاب شكّل القسم الثاني وهو التأليف، وقد احتوى على
مقالات قيمة حول الشعر العربي المعاصر وتطوراته في العالم العربي، كما وقع اختيار صاحبه
على تسعة شعراء من بين الشعراء العرب الأكثر شهرة وهم: أدونيس، وعبد الوهاب
البياتي، وبدر شاكر السياب، وخليل حاوي، وصلاح عبد الصبور، ونازك الملائكة، ومحمود
درويش، ونزار قباني، ومحمد الفيتوري، وقد تفنن المؤلف وأبدع في اختيار العناوين
التي وضعها لهولاء الشعراء، وبيّن لنا الطريقة التي اتبعها في انتخاب هؤلاء الشعراء
الذين ترجم لهم في كتابه، والتي تجلت في سؤاله لبعض النقاد والأدباء العرب عن أشهر
الشعراء في العالم العربي، وهو يدرك قضية انتخاب الشعراء، وما يعتريها من التشرذم والتحزبات
والتجمعات و.... التي تعاني منها الحركة الثقافية في العالم العربي.
لا بدّ من
التأكيد هنا مرة أخرى أن المؤلف من المهتمين بالأدب العربي والمتابعين لتطوراته
الشعرية على مدى عشرات السنين الماضية، وقد بدا واضحاً التأكيد على السنوات
الأخيرة من القرن العشرين غير مرة في مقدمة كتابه، ومما يدل على هذا المقالة
النقدية التي كتبها عام 2000م حول "معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين"
والتعريف به، والتي ضمّنها هذا الكتاب، أما مقدمة الطبعة الأولى من الكتاب الذي
صدر عام 1980م فقد أكد فيها أن الشعر فنّ اللغة، وأهل اللغة هم وحدهم الذين
يستطيعون نقد الشعر وتمحيص مناقبه من مثالبه، مبيناً ضرورة الاستعانة بأهل اللغة
وأبنائها في هذا المضمار(17)، ولعل هذه المقولة جاءت من باب التواضع،
أو تلافياً لبعض المزالق والهفوات التي وقعت في الكتاب، كما نجد المؤلف يؤكد مراراً
أهمية اللغة الأم وهو محق في ذلك فيقول: إن جميع تجليات الشعر لا تظهر إلا في
اللغة الأم.(18)
عالمية الشعر العربي والفارسي
بعد هذه المقدمات ينقلنا المؤلف إلى مبحث آخر من الكتاب يتناول فيه وضعية الشعر العربي المعاصر؛ فيتطرق إلى مقولة في غاية الأهمية، ألا وهي عالمية الشعر العربي والفارسي، فيقول:" يسعى الشعر العربي المعاصر إلى العالمية، كما يسير الشعر الفارسي المعاصر في هذا الاتجاه أيضاً"(19)، ولا شك أن هذه لفتة جميلة وملاحظة في غاية الأهمية من قبل المؤلف كان قد طرحها منذ وقت مبكر، عندما أصدر الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 1980م، وأشار فيها إلى العالمية التي يسعى إليها كل من الشعر العربي والفارسي، ولكن السؤال الذي يلّح علينا هنا وبقوة هو: إلى أين وصل الشعر العربي والفارسي بعدما يزيد على ثلاثين سنة من طرح هذه المقولة؟!
ومن الجدير
بالذكر أننا نجد صاحب الكتاب يؤكد مرة أخرى في ثنايا كتابه أهمية الترجمة وتأثيرها
في كل من الأدب العربي والفارسي فيقول:"لقد تغيرت ماهية الشعر الفارسي
والعربي مئة وثمانين درجة منذ ذلك اليوم الذي قام فيه شعراء آخر القرن التاسع عشر
وأوائل القرن العشرين بترجمة منظومات لافونتين الشعرية، ومنذ ذلك اليوم وحتى الوقت
الحالي نجد تجارب ت.س. اليوت ولوركا، وسن جون بيرس بارزة في كل من الشعر الفارسي
والعربي"(20)، ويلفت الانتباه إلى أن التطورات التي حدثت في
المرحلة الأولى من الشعر العربي في القرنين الماضيين - كما هي في الشعر الفارسي -
مرتبطة بالإطلاع على الفكر الغربي وترجمة نماذج من أشعاره، وهي التي جرت في الأدب
العربي في نهاية القرن التاسع عشر؛ في حين جاءت في الأدب الفارسي مع بداية القرن
العشرين، وسرعان ما ظهر تأثير الشعراء الرومانسيين الغربيين في الشعر العربي، ثم
في الشعر الفارسي، وبرز لدى مجموعة كبيرة من شعراء هاتين اللغتين.(21)
كما تناول
المؤلف في هذا المبحث المرحلة الثانية التي حدثت في مسيرة تطور الشعر العربي، وهي
المرحلة التي تبدأ بعد المرحلة الرومانسية وأبرز أعلامها الشعراء الذين وقع
اختياره عليهم وتناولهم بالبحث والدراسة والتحليل، وبيّن الخصوصيات الشعرية في هذه
المرحلة وهي: اللغة الشعرية، والفضاء الشعري الجديد، والأساطير التي دخلت إلى الشعر
العربي، والتي تتجلى في آثار بدر شاكر السيّاب وبعض الشعراء الآخرين، ويصرح المؤلف
بأن اللغة الشعرية والاهتمام بالأساطير شيء جديد في الشعر العربي، لم يلتفت إليه
الشعراء حتى السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية؛ فقد دخل هذا الشعر في مرحلة
جديدة شكّل الفضاء الغربي فيها حوالي ثمانين بالمئة؛ في حين تتجلى المرحلة الأخيرة
من مسيرة الشعر العربي - حسب وجهة نظر المؤلف- في أعمال شعراء مجلة "شعر"
وهم: توفيق الصايغ، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، وأدونيس، وكمال أبو ديب، وهي
المجلة التي برز فيها الطابع الغربي مئة بالمئة كما يقول الكاتب الذي يبدو معجباً
بأدونيس(22)، وقد كان من بين أصدقائه الذين ربطته بهم علاقات صداقة
وثيقة، وجلسات وحوارات ثقافية ونقدية، إذ نجد المؤلف يعتمد على الأحكام التي
أصدرها أدونيس في كتابه: "مقدمة للشعر العربي"، وهو الكتاب الذي ترجم
إلى اللغة الفارسية في مرحلة لاحقة(23)، بالإضافة إلى مجلة "مواقف"
التي كان يصدرها أدونيس، غير أن ما يلفت الانتباه في هذا المبحث هو الاعتراف
الصريح لصاحب الكتاب بعدم متابعته وإطلاعه على ما نشر في الكتب والمجلات في العالم
العربي بعد سنة 1977م(24)، وهي السنة التي دوّن فيها هذا الكتاب،
والحقيقة أن لهذا الاعتراف جانبين؛ أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالأول يتمثل
بشفافية المؤلف وتواضعه وعدم ادعائه بأشياء لا يعرفها، وأما الثاني فيعتبر مأخذاً
في هذا الكتاب، ومزلقاً من المزالق التي كان من الواجب تلافيها، ولا سيّما أن
المؤلف أعاد النظر في الكتاب مرة أخرى قبل أن يقدم على إصدار طبعته الثانية سنة
2001م.
إن مشكلات
الإنسان العربي المعاصر -حسب وجهة نظر المؤلف - تُصور في الشعر العربي الحديث بطرق
مختلفة، إلا أن الرقابة الدينية والقومية تقف حائلاً دون تطور كثير من الأمور، كما
نجد المؤلف يلفت الانتباه إلى ثلاثة تيارات وجدت في الشعر العربي المعاصر، وبطبيعة
الحال حتى السبعينيات من القرن الماضي، وأول هذه التيارات تيار الشعراء التقليديين
كمحمد مهدي الجواهري، وبدوي الجبل، وثانيها: التيار الجديد الذي يرفض كل المعايير
القديمة وينشد شعراً غربياً مئة بالمئة، وهنالك تيار معتدل بين هذا وذلك، ويؤكد
المؤلف أن أدونيس وعبد الوهاب البياتي يتعاملان مع حقيقة الشعر بالطريقة التي
يتعامل بها سن جون بيرس أو لويس آراغوان، أو سهراب السبهري، أو أحمد شاملو.(25)
إن هذه اللفتة
الجميلة التي يشير إليها المؤلف في كتابه هذا تبرز قضية عالمية الشعر مرة ثانية؛
إذ نجده يؤكد أن أصول علم الجمال في الشعر العربي خرجت عن مجال المكررات والعادات
التي كانت شائعة في القرون الوسطى بشكل عام، وأثمرت شعراً جديداً لو وضعناه إلى
جانب الشعر الأوروبي المعاصر، أو الشعر الرائج في أمريكا اللاتينية لما كان غريباً
عنهما، دون أن يتجاهل آلام الإنسان المعاصر في العالم العربي ومعاناته، وحقيقة الأمر
هذا هو الشعر الحقيقي الذي يعبر عن آلام الإنسانية ومعاناتها، ويدرك الوظيفة التي
يضطلع بها إزاء البشرية، ومن ثمّ لا يتمّ اختزاله
في العواطف الشخصية، والمشاعر الذاتية، والتقوقع والانغلاق على الذات؛ فالشعراء
الحقيقيون هم الذين تتجاوز أشعارهم الحدود الجغرافية الضيقة، ونطاق اللغة الواحدة
من مثل: بول إليوار، ولويس أراغون، وناظم حكمت، وبابلو نرودا، وبرتولت برشت، وانطونيو
ماجادو، وفدريكو لوركا(26)، ومن هنا تتجلى عالمية الشعر، والوظيفة التي
تقع على عاتقه في التواصل والحوار والتلاقي، والمثاقفة بين الأمم والشعوب وأفراد
البشرية جمعاء، وهذا ما يعزز الفضاء المعرفي المتراكم، ورغبة الإنسان منذ الأزل في
الاكتشاف والمعرفة والمثاقفة.
تشابهات الشعر الحديث في الأدبين العربي والفارسي
كانت مقالة "تشابهات
الشعر الحديث في الأدبين العربي والفارسي"- التي أقدم صاحب هذه المقالة على
ترجمتها إلى اللغة العربية ونشرها في غير مجلة-(27) من خصوصيات الطبعة
الثانية من الكتاب؛ إذ عمل المؤلف على إضافة هذه المقالة إلى كتابه فشكّلت ميزة
جديدة من ضمن الامتيازات التي تمتعت بها الطبعة الثانية، كما منح المهتمين
بالدراسات المقارنة بين العربية والفارسية من أبناء كلا اللغتين فرصة الإطلاع على التشابهات
الكبيرة للشعر المعاصر في هذين الأدبين، ولفت انتباه المختصين والمهتمين بالدراسات
المقارنة إلى هذه القضية منذ وقت مبكر نسبياً؛ إذ إن معرفة الإيرانيين بهذا النوع
من الدراسات جاءت متأخرة، وما زال بعضهم يخلط في هذا الحقل، وإذا كانت بعض أسماء
الشعراء والأفكار جاءت مكررة في المقالات، وفي ثنايا الكتاب وفصوله فهذا شيء
طبيعي، والعذر الذي نلتمسه للمؤلف أن فصول الكتاب دوّنت في فترات متباينة، كما كتب
بعضها على شكل مقالات منفصلة، ثم جمعت بين دفتي هذا الكتاب في مرحلة لاحقة.
عمل المؤلف في
هذا المبحث على تقسيم التطورات الأدبية في الشعر العربي المعاصر إلى قسمين، وأشار
إلى أن المرحلة الأولى ( الكلاسيكية) - التي حافظ فيها الشعراء على التقليد القديم
ومراعاة النظام الكلاسيكي للشعر العربي - تتشابه في الأدب الفارسي المعاصر مع
بداية الحركة الدستورية في إيران(1906م) وحتى الثلاثينيات من القرن المنصرم، وأشهر
هؤلاء الشعراء: أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي، وجميل صدقي الزهاوي، وهم الذين
يمكن مقارنتهم مع أديب الممالك، ومحمد تقي بهار، وبروين اعتصامي، ورشيد الياسمي،
وأشار إلى الشعراء المجددين في كلا الأدبين والذين يشبهون بعضهم بعضاً؛ فصلاح عبد
الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وعبد الوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب، وأدونيس
يذكروننا بالشعراء المجددين في الأدب الفارسي وهم: هوشنك ابتهاج، وسياوش كسرائي،
ومهدي أخوان ثالث، وفروغ فروخ زاد، وأحمد شاملو.(28)
من الجدير
بالذكر هنا أن المؤلف عمل على تناول الخصائص الشعرية للمرحلة الأولى بالبحث
والدراسة والتحليل، وبيّن المضامين الشعرية والتشابهات والمشتركات الموجودة لدى
العرب والإيرانيين، من حيث الجوانب السياسية والاجتماعية وعوامل النهضة المختلفة،
وأشار إلى كثير من الشعراء من مثل: أحمد
شوقي، ورشيد سليم الخوري، وإيليا أبو ماضي، وجبران خليل جبران في الأدب العربي،
وأديب البيشاوري، وملك الشعراء بهار، وعارف القزويني، وفرّخي اليزدي، وبروين اعتصامي،
ورشيد الياسمي في الأدب الفارسي.(29)
أما المرحلة الأخرى
فكانت بعد الحرب العالمية الثانية عندما اتّجه شعراء كلا الأدبين إلى الأفكار
الجديدة التي طرحها ت.س. اليوت، وبول إليوار، وعزرا باوند، ووقعوا تحت تأثيرها، كما
تناول المؤلف المضامين الشعرية في هذه المرحلة، وقدّم نماذج متنوعة من الشعر
الفارسي المعاصر التي تتشابه مع مثيلاتها في الشعر العربي، ووضّح الخصائص الشعرية
للمرحلة الثانية، وعرض للمحاولات التي جرت في الشعر المعاصر لهاتين اللغتين من أجل
الخروج على القوالب الشعرية الكلاسيكية، وكسر قاعدتي الوزن والقافية، والتي تمثلت
على يدي الشاعر الإيراني المشهور نيما يوشيج في الشعر الفارسي، وبدر شاكر السيّاب
في الشعر العربي، كما قدّم صاحب الكتاب نماذج من الشعر العربي الحديث، وذكر في
نهاية هذا المبحث أن الشعراء البارزين من الجيل الجديد هم: صلاح عبد الصبور، وعبد
الوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب، وأحمد عبد المعطي حجازي، وخليل حاوي، وأدونيس،
وأشعارهم متشابهة من جوانب مختلفة وزوايا متعددة مع شعر أشهر الشعراء في الشعر
الفارسي وهم: أحمد شاملو، ومهدي أخوان ثالث، وفروغ فرّخ زاد، وهوشنك ابتهاج،
وسياوش كسرائي.(30)
تطورات الشعر العربي المعاصر
كانت مقالة
"تطورات الشعر العربي المعاصر" للدكتور مصطفى بدوي المقالة الأولى التي
أقدم المؤلف على ترجمتها وتضمينها في كتابه، وهذه المقالة في الأصل هي المقدمة
التي وضعها الدكتور مصطفى بدوي لكتابه: "مختارات من الشعر العربي
الحديث" الذي صدر في بيروت عام 1969م.(31)
لقد كان
الدكتور محمد رضا شفيعي كَدْكَني موفقاً في اختياره لهذه المقالة وفي ترجمتها
أيضاً؛ إذ إن هذه المقالة مركزة ومختصرة ومعمقة وذات دلالات بعيدة، وهذا ينمّ عن
قدرة مؤلفها وحصافته، كما ينمّ عن حذاقة المترجم الذي اختار هذه المقالة من بين عشرات
المقالات الأخرى، ومن ثمّ أقدم على ترجمتها ووضعها في متناول الناطقين بالفارسية
للإطلاع على التطورات الشعرية في الأدب العربي المعاصر، وقد أغنت الملاحظات
والهوامش والتعليقات التي دوّنها المترجم على حاشية هذه المقالة الكتاب، ووضّحت
كثيراً من القضايا التي تهم القارئ الفارسي، وجعلت قيمتها مضاعفة؛ فقد عمل المترجم
على التعريف بالشعراء والأدباء الذين جاء ذكرهم في متن المقالة، بالإضافة إلى بعض
المسائل والقضايا التي رأى أنها بحاجة إلى التوضيح، ومن ثمّ شكّلت كل هذه
الملاحظات والتعليقات في النهاية تلاقحاً ثقافياً، وإغناءً للمقالة وتعميقاً لجهود
صاحبها، حتى إنه يمكن القول إنها خرجت بثوب جديد وحلّة جميلة، مع هذه الهوامش والتعليقات التي شكلت
حوالي ثلث المقالة.
حقيقة إنّ هذه
الملاحظات والهوامش دليل على أهمية المثاقفة وتلاقح الأفكار بين الأمم والشعوب،
وحوار الحضارات وتواصل الثقافات المختلفة، ومن ثم فإن هذا التواصل بأشكاله
المتعددة عبر الترجمة يهدف إلى خدمة الأمم والشعوب ويغني آدابهم وثقافاتهم، ويساعد
على إخصابها ونشرها لدى الآخر الذي لا يمكنه أن يعيش منطوياً على نفسه، وموصداً
للأبواب، فقد ولّى زمن الانكفاء على الذات، والانعزال والانقطاع عن الآخرين، ونحن اليوم
أحوج ما نكون إلى معرفة الآخر وإنعاش وجوده في ذاكرتنا، التي افترستها تعقيدات
الحياة، وكاد ركام الزمن وغباره أن ينسينا أن على هذه الأرض أمماً وشعوباً أخرى
غير أبناء ذوي جلدتنا، يجب التواصل معهم ومعرفة أفكارهم واستراتيجياتهم، وإلّا
نسينا التاريخ وكان مصيرنا الانقراض والفناء، ولعل هذا ما حفّز أسلافنا منذ القرون
الأولى على الاهتمام بالترجمة، وإنشاء مراكز لها، وإعطائها حقها من الرعاية
والتشجيع، ورعاية المترجمين وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، فتوجّهوا إلى
الترجمة والنقل عن الأمم والشعوب الأخرى منذ وقت مبكر، فخلّدهم التاريخ وحفظتهم
ذاكرة أبنائه.
أما الملاحظة
الأخرى التي يجب الإشارة إليها هنا فهي أن المترجم أعاد النظر في ترجمة هذه
المقالة في بعض المواطن وليس جميعها، فالمدقق في الطبعة الأولى والثانية من الكتاب
يشاهد هذا الأمر بوضوح، ولا تخطئه العين، وقد تبلورت بعض هذه التعديلات بإضافة
عبارة أحياناً، كما فعل المترجم في تعريفه لنجيب محفوظ عندما أضاف العبارة
التالية:" حصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1988م"(32)، كما
تجلت في إعادة النظر بترجمة بعض العبارات في أحايين أخرى كما فعل في تعبير
"مادة تاريخ"(33) بدلا من " تاريخ مناسبات"(34)،
والمقصود بذلك التأريخ، وهو أن يذكر الشاعر كلمة أو جملة أو عبارة يؤرخ من خلالها
لمناسبة معينة، حسب نظام أبجد المتعارف عليه؛ بيد أن هذه القضية تحتاج إلى دراسة
وتحليل، وهي جزء من بعض المزالق التي تعرض لها المؤلف أثناء ترجمته، وأعاد النظر
في بعضها عند إصداره الطبعة الثانية، في حين لم يتمكن من إعادة النظر في مواطن
أخرى؛ لذلك أكتفي بهذه الإشارة على أن أعود لبحث هذه المزالق في مقالة أخرى منفصلة
بمشيئة الله.
صحيح أن عدد
الشعراء الذين اختارهم المترجم في هذا الكتاب، وترجم لهم وعرّف بهم قليل جداً، وهم
تسعة شعراء فقط، إلا أن أسماء عشرات الشعراء الآخرين الذين ورد ذكرهم في مقالة
الدكتور مصطفى بدوي وفي مواضع أخرى، والذين عرّف بهم المترجم في حواشي الكتاب قد
جبر هذا النقص إلى حدّ كبير، فقد وضّح المؤلف التيارات الشعرية التي ظهرت في
العالم العربي منذ بدايات القرن العشرين، والتي تمثلت في حركة إحياء الشعر العربي
بعد عصور الانحطاط، وقام بها كل من ناصيف اليازجي ومحمود سامي البارودي، وفي المرحلة
الكلاسيكية أو الكلاسيكيين الجدد كما يسميهم المؤلف، ومن أشهرهم: أحمد شوقي، وحافظ
إبراهيم، وجميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، ومحمد مهدي الجواهري، كما تناول
المؤلف جهود الجيل الثاني من الشعراء الكلاسيكيين، الذين استطاعوا إضافة نوع جديد
من المضامين الشعرية غير المتعارف عليها في الشعر التقليدي، والتي تجلت في الشعر
السياسي والاجتماعي ومثّلها بعض الشعراء كالزهاوي والرصافي وولي الدين يكن(35)،
وعرض للحركة الرومانسية وروادها في الشعر العربي المعاصر، والمضامين الجديدة التي
طرحها هؤلاء في أشعارهم، ومن ثمّ تحدّث عن الشعراء الرومانسيين وأشهرهم: إلياس أبو
شبكة، وعمر أبو ريشة، وأبو القاسم الشابي، ويوسف التيجاني، وخليل مطران، وبطرس
كرامة، ورشيد أيوب، والدور الذي اضطلع به كل من إبراهيم عبد القادر المازني، وعباس
محمود العقاد، وجبران خليل جبران من حيث التأثير في الحركة الشعرية في أوائل القرن
الماضي(36)، وكذلك تمت الإشارة إلى الجماعات الشعرية كجماعة
"الديوان": عبد الرحمن شكري، وعباس محمود العقاد، وإبراهيم المازني،
وجماعة "آبولو": أحمد زكي أبو شادي، وإبراهيم ناجي، وعلي محمود طه، وشعراء
مجلة شعر: يوسف الخال، وخليل حاوي، وأدونيس، وبعض شعراء المهجر: ميخائيل نعيمة،
ونسيب عريضة، وشعراء الواقعية الاشتراكية: كمال نشأت وعبد الرحمن الشرقاوي،
والشعراء الرمزيين وأشهرهم أحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد الفيتوري، بالإضافة إلى
بعض الكتّاب والأدباء العرب الآخرين كنجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم.(37)
أما مقالة
"خصائص الشعر العربي الحديث" التي أُخذتْ من كتاب "الشعر قنديل
أخضر" لنزار قباني فكانت المقالة الأخيرة التي أقدم المترجم على ترجمتها
وتضمينها في هذا الكتاب، إذ تناول صاحبها موضوع النزاع بين الشعراء
التقليديين والشعراء الحداثيين، وتحدّث عن الهندسة الشعرية في القصيدة العربية،
والتطورات التي حدثت في الشعر العربي المعاصر، وأشار إلى فكرة عالمية الأدب، وبدا
واضحاً من خلال هذه المقالة أن صاحبها وجّه سيوف نقده للشعر الكلاسيكي؛ فقد شّبه
القصيدة العربية التي يشكّل البيت فيها الركن الأساس بفيلم سينمائي سطحي مليء
بالأحداث المثيرة؛ إذ إن كل بيت قائم بذاته ومستقل عن الأبيات الأخرى، وأكد أن
القوالب الشعرية العربية هي التي تتحكم بالشاعر وليس العكس، كما تطرق إلى الشعر
العربي من حيث الشكل والمضمون، وخلص إلى أن الشعر العربي المعاصر قد هبط من برجه
العاجي، وابتعد عن القصور والبلاطات، ولامس حاجات الناس؛ فالشعر مناجاة الإنسان
للإنسان.
من الجدير بالذكر
أن هذه المقالة خضعت للتهذيب والتنقيح وإعادة النظر في مواطن متعددة، حتى طال ذلك
العناوين الفرعية، وهذا ما يبدو واضحاً عند مقارنة هذه المقالة بين الطبعتين
الأولى والثانية، أما بعض الحواشي والتعليقات التي أضافها المترجم فقد أغنت المقالة
وزادت من أهميتها، وشكّلت نوعاً من المثاقفة بين العربية والفارسية، كما دلّلت على
أن المترجم ليس أقل إطلاعاً على الشعر العربي من كاتب المقالة؛ فعلى سبيل المثال
نجده يعمل على تعريف المعلقات وأصحابها في إحدى الحواشي، ويشير إلى الاختلاف في
عددها أهي سبعة أم عشرة؟ والأهم من ذلك طرحه لقضية الانتحال في الشعر الجاهلي(38)
وأصالة هذه المعلقات، وهل هي جاهلية أم انتحلت في العصور الإسلامية؟ وهي
القضية التي طرحها بعض المستشرقين في كتاباتهم، وطه حسين في كتابه المشهور "في
الشعر الجاهلي" الذي اضطر في مرحلة لاحقة إلى حذف بعض أجزائه، وإعادة طباعته
مرة أخرى تحت عنوان "في الأدب الجاهلي".(39)
النتيجة
لقد عملت هذه
المقالة على إبراز فكرة المثاقفة العربية الفارسية من خلال الترجمة التي كانت على
مر العصور والأزمان أهم وسيط ثقافي في نقل المعرفة والتواصل مع الآخر- الذي ظل
هاجساً من الهواجس التي أرقت الشعوب والأمم - وجسراً يدعونا إلى التواصل بين الثقافات
المتنوعة والحضارات المتعددة، فالأفكار تنتقل من قارة إلى أخرى بشكل يومي وسريع،
ولا تحتاج إلى جواز سفر أو أذن مرور من هذه الدولة أو تلك، وأدب أي شعب من الشعوب
أو أمة من الأمم لا يمكنه البقاء في حدود جغرافية ضيقة، ويعيش في منأى عن الآخرين،
وإلاّ نسيه التاريخ، وكان مصيره الزوال والفناء، فالروافد الثقافية والترجمة مظهر
من مظاهرها هي التي تغذي ما لدينا من فكر وحضارة، ومن ثمّ تؤدي إلى التبادل الثقافي
وتنوعه وإخصابه؛ وهذا ما يعزز نظرية حوار الحضارات وتواصل الثقافات لا صراعها
وتنافرها.
أما الخاتمة التي أُنهي بها هذه المقالة فهي
النتيجة نفسها التي خلص إليها الأستاذ الدكتور محمد رضا شفيعي كَدْكَني في نهاية
مقالته الموسومة بـ"تشابهات الشعر الحديث في الأدبين العربي والفارسي"، التي
تجلت فيها المثاقفة العربية الفارسية في العصر الحديث في أرقى صورها وأشكالها، وهي
التي أشرت إليها في هذه الدراسة بـ" نظرية الأواني المستطرقة"، التي حرص
المؤلف على إبرازها في بداية مقدمة الطبعة الثانية من كتابه"الشعر العربي
المعاصر" وفي ثناياه أيضاً؛ إذ نجده يخلص إلى قوله: "إن النتيجة التي يمكن التوصل إليها من
هذا البحث هي أن الماء الذي يكون في أوانٍ مرتبطة مع بعضها البعض يستقر في سطح
واحد، والتطورات الأدبية في شعر كلتا اللغتين ظاهرة طبيعية، ونتيجة لحاجة المجتمع
وإطلاعه على الشعر والأدب الغربي، فكلما انتشر شعاع هذه المعرفة أصبح ميدان هذه المستجدات
أكثر اتساعاً....".(40)
الهوامش والتعليقات
(1) انظر كتاب: شعر معاصر عرب، محمد رضا شفيعى كدكنى، الطبعة الأولى، انتشارات
توس، طهران، 1359هـ ش.(بالفارسية)
(2) انظر كتاب: شعر معاصر عرب، محمد
رضا شفيعى كدكنى، الطبعة الثانية، انتشارات سخن، طهران، 1380هـ ش. (بالفارسية)
وانظر مقدمة الكتاب وفهرس محتوياته على الرابط التالي:
(3) انظر كتاب:
زندگى وشعر محمد رضا شفيعى كدكنى، مجتبى بشر دوست، الطبعة الأولى، نشر يوشيج،
طهران، 1379 هـ ش.(بالفارسية)
(4) انظر مقدمة
كتاب الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا، الدكتور محمد
رضا شفيعي كدكني، ترجمة الدكتور بسام ربابعة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 368،
اكتوبر 2009م.
(5) انظر فهرس آثار الدكتور
محمد رضا شفيعي كدكني على الرابط التالي:
وانظر كذلك
الأشعار الكاملة له على الرابط التالي:http://moraffah.blogfa.com/cat-131.aspx
(6) الترجمة وحوار الحضارات: كتاب الأدب الفارسي أنموذجاً، الدكتور بسام علي
ربابعة، مجلة كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، صص143- 175، عدد 2، الجزء الثاني، يناير
2012، وانظر المقالة
كذلك على موقع الدكتور بسام ربابعة على الرابط التالي: http://wwwdrrababah.blogspot.com
(7) انظر على سبيل المثال مقالة تقرير المعرفة في العالم العربي: قراءة مركبة
على الرابط التالي:
(8) الترجمة
والمثاقفة : كتاب معاداة العرب في الأدب الإيراني المعاصر نموذجاً، بسام علي
ربابعة، مجلة فصول المصرية، صص181-199، عدد74، خريف 2008م، وانظر المقالة على موقع
الدكتور بسام ربابعة على الرابط التالي:
ولمزيد من التفصيل حول التأثيرات
المتبادلة بين العربية والفارسية وخاصة التي ظهرت في القرن الثاني الهجري يمكن
الرجوع إلى مقالة: تأثير فرهنگ ايران در ادبيات عرب قرن دوم هجرى (تأثير الثقافة
الإيرانية في الأدب العربي في القرن الثاني الهجري) الدكتور محمد مصطفى هدارة،
ترجمة بسام علي ربابعة، مجلة نامه پارسى
(مجلة الرسالة الفارسية ) صص 107-123 عدد 1، 2003م، وانظر كذلك مقالة: الترجمة
وفعل المثاقفة، الدكتور محمد زرمان، على الرابط التالي:
http://www.google.com.sa/search?hl=ar&site=&source=hp&q=الترجمة+وفعل+المثاقفة،+الدكتور+محمد+زرمان&oq=
(9)
لمزيد من التفصيل انظر كتاب: خدمات متقابل اسلام
وايران، مرتضى مطهري، الطبعة السادسة والعشرون، دار صدر، طهران،1377،(بالفارسية) والجدير
بالذكر بأن هذا الكتاب ترجم إلى اللغة العربية، وللإطلاع على الجهود التي بذلها
الإيرانيون في ترجمة بعض الآثار العربية إلى اللغة الفارسية انظر مقالة: جهود
الإيرانيين في الترجمة من العربية إلى الفارسية، الدكتور محمد نور الدين عبد
المنعم، مختارات إيرانية، عدد مارس، 2009م، على الرابط التالي:
ومقالة: الترجمة الأدبية من العربية إلى
الفارسية، موسى بيدج، مجلة "شيراز" العدد التاسع ، ربيع 2008، على
الرابط التالي:
(10) انظر: شعر معاصر عرب، محمد رضا
شفيعى كدكنى، الطبعة الثانية، ص 20.
(11) انظر الأشعار التي أنشدها الدكتور محمد رضا شفيعي
كدكني عندما تناهى إلى مسامعه خبر وفاة عبد الوهاب البياتي سنة 1999م في كتاب شعر
معاصر عرب، الطبعة الثانية، صص 198 – 199.
(12) انظر آوازهاى
سندباد، عبد الوهاب البياتي، ترجمه شفيعي كدكني، الطبعة الأولى، دار نيل، طهران،
1348 هـ ش.(بالفارسية)
(13) انظر مقدمة كتاب الأدب
الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا، الدكتور محمد رضا شفيعي كدكني، ترجمة الدكتور
بسام ربابعة، سلسلة عالم المعرفة، عدد 368، اكتوبر 2009م، ويمكن تحميل الكتاب على
الرابط التالي: http://www.edenkotob.com/2011/02/blog-post_7177.html
(14) انظر شعر معاصر عرب، محمد رضا شفيعى كدكنى، الطبعة
الثانية، ص 20، ص 13.
(15) المرجع نفسه ، ص 14.
(16) المرجح نفسه، ص15.
(17) المرجع نفسه، ص 16، الطبعة الأولى، وانظر الطبعة الثانية
ص 20.
(18) انظر المرجع السابق، ص 16.
(19)
انظر المرجع نفسه، ص 26.
(20)
المرجع نفسه، الطبعة الثانية، ص 29.
(21) انظر المرجع نفسه، ص 29.
(22)
انظر المرجع السابق، صص 29- 32.
(23) انظر كتاب پيش در
آمدی بر شعر عربی، ادونيس ( علي أحمد سعيد) ترجمة کاظم برگ
نیسی، الطبعة الأولى، فكر روز، طهران، 1375، هـ ش.(بالفارسية)
(24) انظر شعر معاصر عرب، محمد رضا شفيعى
كدكنى، الطبعة الثانية، ص 36.
(25)
انظر المرجع السابق.
(26)
انظر المرجع، نفسه، ص 37.
(27)
انظر مقالة "تشابهات الشعر الحديث بين الأدبين العربي والفارسي"،
الدكتور محمد رضا شفيعي كدكني، قدّم
للدراسة ونقلها إلى اللغة العربية الدكتور بسام علي ربابعة، مجلة أفكار، صص32- 48
وزارة الثقافة الأردنية، عدد241، 2008م، ومجلة فصلية إيران والعرب صص53-73،عدد23-24 2008-2009،
ومجلة الدراسات الأدبية، الجامعة اللبنانية، عدد66، صص13-40، 2009م، وانظر المقالة
كذلك على موقع الدكتور بسام ربابعة على الرابط التالي:
(28) انظر
كتاب: شعر معاصر عرب، ص 39.
(29) انظر
المرجع السابق، صص 40-49.
(30) انظر
المرجع نفسه، ص 61، ومما هو قمين بالإشارة
هنا أن بعض المترجمين الإيرانيين قد عملوا على دراسة التطورات الشعرية في الشعر العربي
المعاصر، وقدّموا نماذج مختلفة لأبرز الشعراء العرب المعاصرين، لمزيد من التفصيل
انظر على سبيل المثال كتاب: از سرودِ باران تا مزامير گل
سرخ، پيشگامان شعر امروز عرب، موسى اسوار، الطبعة الأولى، سخن، طهران، 1381هـ ش.(بالفارسية)
(31) انظر كتاب
مختارات من الشعر العربي الحديث، مصطفى بدوي، الطبعة الأولى، دار النهار للنشر،
بيروت، 1969م
(32) شعر معاصر عرب، الطبعة الثانية، ص
67، ومما يجدر الإشارة إليه هنا أن الأثر الوحيد الذي ترجم لنجيب محفوظ إلى اللغة
الفارسية قبل عام 1988 هو رواية"اللص والكلاب"؛ في حين تهافت المترجمون
الإيرانيون على ترجمة آثار هذا الأديب بعد حصوله على جائزة نوبل لتصل إلى أثني عشر
أثراً إبرزها: "رادوبيس" و"زقاق
المدق" و"ثرثرة فوق النيل" و"نصيحة
الشيطان" و"المتسول"، لمزيد من التفصيل حول ترجمة الآثار العربية
إلى اللغة الفارسية انظر مقالة: ترجمة الأدب العربي إلى
اللغة الفارسية، الدكتورة نسرين حكمي ممتاز، ضمن كتاب العربي، العدد 86 ، الكويت، يويلو،
2012م، على الرابط التالي:
(33) المرجع
السابق، ص 68.
(34) المرجع
نفسه، الطبعة الأولى، ص 44.
(35) المرجع
نفسه،الطبعة الثانية، ص 76.
(36) المرجع
نفسه، ص 82.
(37) انظر نفسه، ص 83 وما يليها.
(38) لمزيد من
التفصيل حول قضية الانتحال في الشعر الجاهلي انظر كتاب: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها
التاريخية، الدكتور ناصر الدين الأسد، الطبعة الثامنة، دار الجليل، بيروت، 1988م .
(39) انظر كتاب
شعر معاصر عرب، ص 99، وانظر كذلك الكتاب المثير للجدل: في الأدب الجاهلي، طه حسين،
الطبعة الرابعة عشرة، دار المعارف، القاهرة، 1927م.
(40) شعر معاصر عرب، الطبعة الثانية، صص 61-62،
وانظر مقالة: الأواني المستطرقة، الدكتور محمد علي آذرشب، موقع إيران والعرب، على
الرابط التالي:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق