الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

الأدب الفارسي إلى أين؟ 

عرض لكتاب الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا
الدكتورة نجمة إدريس/ صحيفة الجريدة الكويتية

بين يديّ أحد إصدارات «عالم المعرفة» بعنوان «الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا»، لمؤلفه الدكتور محمد رضا كدكني، وترجمة الدكتور بسام ربابعة. ويمكن الاستدلال على زمن كتابة هذا المؤلَّف من خلال مقدمته، والذي يعود إلى منتصف تسعينيات القرن العشرين على أبعد تقدير. وسبب وقوفي عند زمن التأليف يعود إلى فضولي المتزايد لمعرفة مدى صدقية عنوان الكتاب، خاصة في ما يتعلق بشقه الفرعي (وحتى أيامنا). علماً أن المؤلف الدكتور كدكني من مواليد عام 1939م، وحيث إنه ألف الكتاب منتصف التسعينيات، فقد كان ينبغي أن يدرج ما طرأ على الأدب الفارسي من متغيرات الواقع الثقافي (حتى أيامه)، أي حتى ما بعد الثورة الإسلامية.
ولعلنا غير ملومين في ارتفاع نسبة الفضول لدينا في معرفة ماذا يكتب الشعراء والأدباء الفرس في أيامهم هذه، بعد أن دخلت إيران معتركاً سياسياً وعقائدياً وأيديولوجياً على جانب لا يستهان به من التعقيد والإرباك. ولكن للأسف لم أجد ما يشفي الغليل في ما يتعلق بهذه المرحلة المتأخرة، إذ وقف المؤلف عند مشارف عام 1970م، دون التجرؤ على الخوض إلى ما وراء ذلك، رغم المعاصرة والمعايشة!
ورغم خيبة الأمل هذه، فإن الولوج إلى تضاعيف الكتاب يأخذك إلى لون من طمأنينة العارف الذي لا يكاد يتوغل في أرض غريبة حتى يدرك وكأنه مرّ في هذا المكان من قبل، أو كأنه يحدس بمنعطفاته وأنحائه. خامرني هذا الشعور وأنا أقرأ في مراحل تطور الأدب الفارسي، لأجده يكاد يشابه مراحل تطور الأدب العربي في ظروفه التاريخية والسياسية ومؤثراته الثقافية. وهذا أمر بدهي ما دامت بلاد فارس واقعة ضمن رقعة إقليمية تكاد تتوحد فيها مجريات تاريخ المنطقة وثقافتها منذ ظهور الإسلام، وعبر سلسلة أحداث وأنظمة ودول سادت ثم بادت.
فكما شهد تاريخ الشعر العربي في قرونه الهجرية الأولى قامات شعرية مثل أبي تمام والبحتري والمتنبي، كان للفرس الفردوسي والخيام وجلال الدين الرومي وسعدي وحافظ. وحين بدأ عصر الانحطاط (الثقافي) بسقوط بغداد بيد المغول وتشرذم الدويلات الإسلامية، تواصل الانحدار أيضاً في بلاد فارس التي خضعت لقبضة تيمورلنك حتى منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. فلم يحفظ تاريخهم الشعري خلال فترة انحطاطه بأفضل من عبدالرحمن الجامي الذي كان ممثلاً لذلك اللون من الشعر التقليدي المتهالك المثقل بالصنعة والتعسف والحيل اللغوية والصور النمطية والعاطفة المتكلفة. وكأني بهذا الوصف يتحدث عن شعر عصر الانحطاط الأدبي في نسخته العربية إبان العصر المملوكي والعثماني، حين غدت لغة الشعر وعاءً للمحسنات البديعية والبيانية ووسيلة للزخرفة الفارغة والبهلوانيات اللغوية العاطلة من العاطفة والمعنى.
ينتقل المؤلف بعدها إلى العصر الصفوي الذي امتد حتى القرن الثامن عشر الميلادي، وراج فيه ما يسمى بـ»الأسلوب الهندي»، الذي عُرف في إيران وأفغانستان وطاجكستان وأوزبكستان بسبب ما، بينها من تداخل إقليمي ولغوي، فجميع هذه الأقاليم تنطق بالفارسية. و»الأسلوب الهندي» فيه محاولة للتقليل من التكلف اللغوي السالف إبان العصر التيموري، وارتياد لغة أكثر سهولة وواقعية وألصق بتجارب الحياة الإنسانية. من عناصر التجديد أيضاً الخروج من الصور الشعرية التقليدية في الغزل والوصف إلى آفاق التجريد والغموض، وإلى التوليد من اللهجة العامية. كما طال التجديد شكل البيت الشعري وتخلص من التصريع والتوازن الهندسي المبالغ فيه.
يقول المؤلف في وصف الحياة الأدبية في العصر الصفوي: «كانت أكثر المقاهي في العصر الصفوي مراكز للنوادي الأدبية، وكان الملوك الصفويون يزورون هذه المراكز أيضاً ويظهرون الرغبة أحياناً في سماع آثار الشعراء، وكانت هذه المقاهي، التي تُعد مراكز لتطور الشعر وانتشاره مكاناً يتردد عليه الحرفيون والكادحون، ولذا فقد كان اختلاط الشعر مع حياة طبقة العمال هو الذي سمح بظهور عناصر من حياة هذه الطبقة في مضمون الشعر وميدان الكلمات وفي التصاوير الشعرية أيضاً».

***************                    ******************

يمضي الدكتور محمد رضا كدكني في رصد عصور تطور الشعر الفارسي في كتابه (الأدب الفارسي منذ عصر الجامي وحتى أيامنا)، بالوصول إلى ما سماه بالعصر القاجاري الممتد من أواخر القرن الثامن عشر الميلادي إلى أوائل القرن العشرين. وهذا العصر يبدأ بسقوط الأسرة الصفوية، ثم ظهور نادر شاه وسقوطه أيضاً. وتأثير هذه العوامل مجتمعة من قلاقل وعدم استقرار على الشعر الفارسي الذي فقد تألقه وتراجع إلى مرحلة التقليد وإعادة استنساخ أسلوب شعراء القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وبذلك يرى المؤلف أن أهم ملامح هذا العصر هو الارتداد نحو إحياء النماذج القديمة وتوجيه ضربة موجعة إلى التجديدات في الأسلوب والمضمون التي عرفت بـ(الأسلوب الهندي) إبان عهد الصفويين.
في مجال المقارنة مع الشعر العربي في ذات الفترة التاريخية، يمكن اعتبار ما يسمى بمرحلة الإحياء أو الكلاسيكية الجديدة التي قادها محمود سامي البارودي ومن ثم تلامذته مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والرصافي والزهاوي وغيرهم، صورة شبيهة للعصر القاجاري أعلاه. فظاهرة التقليد وإحياء نموذج القصيدة العربية الكلاسيكية بشكلها ومضمونها من مدح وغزل ووصف ورثاء كان هو الملمح الأهم لهذه المرحلة.
يأتي المؤلف بعد ذلك إلى ما سماه بعصر الحركة الدستورية، والذي يبدأ منذ النصف الثاني من القرن العشرين، والذي مهدت له ظروف انقلاب عام 1920م على سلطة ناصر الدين شاه ومظهر الدين شاه. ففي هذه الفترة عكست الآداب من شعر ونثر جميع جهود الشعب الإيراني من أجل الوصول إلى حكومة دستورية والخلاص من النظام الاستبدادي. وكانت مفاهيم وأفكار مثل «الحرية» و»دولة القانون» و»المساواة» كثيرة الدوران في المنتج الأدبي، الذي غدا أدباً للحياة والواقع أكثر منه تقليداً واستنساخاً للماضي. وقد ساعد على دفع هذه العجلة ما راج من بيانات أدبية تنتقد بشدة الركون للأدب الكلاسيكي ووصفه بالمبالغة والكذب والاستسلام للخواء وخمول العقل وإفساد الذوق ومجافاة الحياة الحقة.
هذه الخطوة التجديدية الإصلاحية بما فيها من لهجة حادة ونقد لاذع تبنتها شخصيات أدبية لعل أهمها «آخوند زادة» و»آقاخان الكرماني»، وكلاهما يذكراننا بذات الفترة الزاخرة بمتغيرات الذوق الأدبي في نسخته العربية، والتي حمل لواءها طه حسين والعقاد وميخائيل نعيمة، وما أتت به مدرستهم النقدية من زعزعة لمفاهيم تقليدية راسخة حول رسالة الشعر.
ولكن يبدو أن ثمار انقلاب 1920م لم تؤتِ أكلها بعد ذلك، فقد هيأ الإنكليز بتدخلهم السلطة لضياء الدين الطبطبائي ثم لرضا شاه بهلوي، وبدأت ترين مع هذا العهد غيوم الشتاء الأسود كما وصف المؤلف. فمع التضييق على الحريات ونقص المكتسبات بدأ التشرذم في صفوف الأدباء، وبدأ الشعر الفارسي يفقد هدفه الأصلي وهو التعبير عن الحياة والمجتمع، وغدا شعراً مبهماً وملتبساً تحت تأثير آلة التضييق والعسف. ولعل هذا الجو الملبد أتاح الفرصة بعد ذلك لنوع جديد من الشعر المغاير أو المختلف، أو لنقل الهارب من المعايير الدانية المألوفة. فأتت تجربة الشاعر نيما يوشيج غير تقليدية في اللغة والصورة الشعرية والموسيقى والمضمون والتقنيات الفنية. ولعل تجديدات نيما في عروض الشعر وموسيقاه يذكرنا بتجديدات نازك الملائكة في مجال المقارنة، أما تأثره بالشعر الغربي وتوظيفه للأسطورة وانطلاقه نحو قصيدة النثر فيضعنا أمام شاهد ملموس لمرحلة تطورية مطابقة في شعرنا العربي.
ينتهي سرد المؤلف لتطور الشعر الفارسي عند مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي سماها مرحلة الإبداع وبسط التجربة. فقد تمتع المجتمع الإيراني بحريات النشر وحصد ثمار إلغاء الرقابة بعد سبتمبر 1941م. وسرت في الشباب روح نيما يوشيج وتأثيراته، فاحتذوه واستنهضوا به مواهبهم. كذلك يمكن اعتبار ترجمات الأشعار الغربية من فرنسية وروسية وإنكليزية رافداً آخر في صالح ذلك الازدهار.
 إلى هنا ينتهي السرد التاريخي لما مضى، لكن وضع إيران حالياً وما يزخر به من متغيرات سياسية وعقائديةٍ فكرية ينبئ ولا شك 
بمتغيرات جذرية في مشهد الأدب الفارسي. ولا نملك إلا أن ننتظر دراسة أخرى تضيء هذا الواقع الجديد.

ليست هناك تعليقات:

الربابعة يترجم كتابين من الأدب الفارسي المعاصر خبر صدور كتاب أنطولوجيا الرواية الفارسية المعاصرة  وكتاب مراحل  الشعر   الفارسي على موقع جامع...